إبراهيم طالع.. اللغوي يكبّل الشاعر “1”
لن يختلف اثنان على أن الشاعر إبراهيم طالع هو أحد الأسماء التي قاربت الإبداع الشعري في منطقة عسير لعقود مضت، ولن يداخل متلقيا شكٌّ في أن المقدرة اللغوية التي يتمتع بها جراء انهماكه في الدرس اللغوي تخصصا واشتغالا وبحثا طيلة حياته -ولا يزال- كان لها الأثر الكبير واللافت في مسيرته الشعرية والأدبية والكتابية على وجه العموم. والمتتبع لنتاج إبراهيم طالع النثري والشعري يدرك مدى تغلغل اللغة في نفسه بوصفها كيانا متحركا، وحياة معيشة والتزاما لا يفارقه ولا يخلف وعده معه، بل إنه حتى حينما يتناول الشعر الشعبي بالدرس والتأريخ فإنه يجعل اللغة العربية المعجمية الرصينة متكأ وموئلا يعيد إليه المعطيات الحاضرة بين يديه لحظة الدرس، وتلك المستحضرة عبر أزمنة ماضية.
أما القصيدة عند إبراهيم فبناء فني يقوم على هاجس اللغة وما تهيؤه من دلالات، وما تأذن به من تراكيب، وهي كذلك عند كل شاعر، لولا أن الأمر عند (طالع) يزيد قليلا لنجد السياقات اللغوية تأخذ مفرداتها إلى مرابع أجدادها وأصولها في كتب المعاجم، نلمس ذلك عبر قصائد عديدة في دواوينه المطبوعة (هجير، وسهيل اميماني، ونحلة سهيل، و وافاطمة) وكأنّ الكيان اللغوي الراسخ في ذاته يراقب بل ويؤطر تمرد الشاعر الذي يروم أن يتلبّسه ويكونه، واجتماع اللغوي الصارم مع الشاعر المبدع المتمرد في حيز واحد، وروح واحدة، وعقل واحد يحدث -ولا شك- صراعا مؤثّرا نرى آثاره على ما ينتج عنه من منجز شعري. وليس هذا بدعا من الأمر ففي عصور الشعر العربي لم يفتأ اللغوي رقيبا حسيبا على الشاعر أينما ذهب، ولعلنا نتذكر جواب الفرزدق (الأموي) على عبد الله ابن أبي إسحاق النحوي، حين رفع آخر بيته وحقه النصب: “رفعته على ما يسوؤك وينوؤك، علينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا..” بل إن الزمخشري قال عنه: هذا بيت لا تزال الركبُ تصطك في تسوية إعرابه.”
فإن قال قائل: وهل يعيب الشاعر أن تكون لغة قصيدته محكمة صرفة متماسكة؟ قلنا: لا يعيبه ذلك، ويمكن أن يكون للغة والإبداع حضورهما معا، على ألا يطغى أحدهما على الآخر، ونسيج القصيدة عند إبراهيم يراوح بين هذا وذاك، لكن اللغوي الأصيل يبقى هو الأبرز عنده مما يخفف من وهج الشعرية في بعض نصوصه، ويُخفت قليلا من صوت موسيقاه، ويحيل المتلقي -قارئا أم مستمعا- إلى الرهن المرجعي مما سأبينه بناء على النماذج المدروسة في المقال المقبل بمشيئة الله.
يحيى محمد العلكمي.>