وسط زحمة الأحداث التي يشهدها الوطن العربي ، لم يغب عن بال الكثيرين الخطر الداهم الذي يهدد اللغة العربية ، ويتمثل بالتراجع الكبير لمكانتها والاستخدام غير السليم لها في حياتنا اليومية ، ومن هنا تضافرت المسؤولية الأساسية لحماية اللغة القومية التي تتحملها الحكومات ــ على الرغم من أن الحكومات تزدحم أجندتها بمشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية ــ فضلا عن تحالف المؤسسات الأكاديمية ، والتعليمية ، ومجامع اللغة ، إضافة للدور المفترض لوسائل الإعلام ، كل ذلك بهدف الاستخدام السليم للغة وذلك لتعزيز الهوية الوطنية لدى الأجيال القادمة ؛ لأنها المعبّرة عن القيم والثقافة والتميز التاريخي.
إن قيام الهيئات والجمعيات النافذة في المجتمعات المتقدمة ؛ بمبادرات لحماية لغتها من هيمنة اللغات الأخرى دليل على المخاطر المحدقة باللغة العربية ، ومن تلك المبادرات :
1ـ مبادرة : موسوعة الملك عبد الله بن عبد العزيز العربية للمحتوى الصحي :
موسوعة الملك عبد الله بن عبد العزيز العربية للمحتوى الصحي ، هي مؤسسة علمية تتبع لرئاسة الشئون الصحية السعودي بوزارة الحرس الوطني ، تهدف إلى تزويد القارئ العربي بالمعلومات الصحية الدقيقة ، والموثوقة من خلال موقعها الإلكتروني على شبكة الإنترنت باللغة العربية ، وذلك بالتعاون مع عدد من الهيئات والمنظمات المحلية والدولية التي تتمتع بمكانة مرموقة في هذا المجال .
وقد أجريت دراسة في كلية الصحة العامة والمعلوماتية الصحية بجامعة الملك سعود بن عبد العزيز للعلوم الصحية ؛ أظهرت أن نسبة المواقع التي تقدم المعلومات الطبية باللغة العربية بشكل موثوق لا تتجاوز 4% من إجمالي المواقع الطبية العربية. ومن هنا جاءت فكرة إنشاء موسوعة عربية إلكترونية تقدم المعلومات الطبية الموثوق كي تخدم ما يقرب من ثلاثمائة مليون قارئ عربي حول العالم..وهذه مبادرة تسجل للموسوعة ؛ حين تدخل اللغة العربية ضمن القوائم المعتبرة للباحثين عن المواقع الطبية باللغة العربية .
2ـ مبادرة : الملك عبد الله للمحتوى العربي :
مشروعٌ حضاريٌّ تعقد عليه الآمال في الارتقاء باللغة العربية وتراثنا العظيم ليكون منشوراً في فضاء الشبكة العالميّة ، فهو إلى جانب كونه نشراً لما كُتب بالعربيّة في شتّى العلوم ، لكنّ أثره بالغُ القوّة في نشر علوم العربيّة ونصوصها في عصورها المختلفة . لذا جاءت مبادرة الملك عبد الله للمحتوى العربي بهدف :
• الحفاظ على الهوية العربية والإسلاميــة للمجتمع ، وتعزيز المخزون الثقافي والحضاري الرقمي .
• التمكين من إنتاج محتوى إلكتروني عربي ثري لخدمة المجتمعات العربية والإسلامية.
لقد أصبحت الشبكة المعلوماتية تشكل موسوعة ثقافية وتعليمية لجميع المجالات وبعدد كبير من اللغات العالمية وأصبحت وعاء لنشر الكتب وذلك من خلال المكتبات الرقمية كما أصبحت تستخدم حاليا كوسيلة إعلامية للتعريف بالشعوب والدول، وفي حين أصبحت هذه الشبكة تشكل الطريقة الأسهل والأسرع للوصول إلى المعلومة، إلا أنه يلاحظ ضعف المحتوى العربي حيث إن الإحصاءات تشير إلى أن نسبة المحتوى الرقمي للغة العربية شحيح لدرجة أن نسبته لا تتجاوز 3% من المحتوى العالمي للغات الأخرى” (المحتوى العربي على الانترنت 3% فقط ، مقال : ماجد سعد الهزاع ، صحيفة الاقتصادية العدد 6981 ) ،
إلا أن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الآسكوا) ذكرت ” أن اللغة العربية حققت أعلى نسبة نمو على شبكة الإنترنت مقارنة مع اللغات الأخرى، بين عام 2000 و2011 وأوضحت أن استخدام تطبيقات الهواتف ومواقع التواصل الاجتماعي، واعتماد بعض البلدان أسماء للنطاقات العلويّة باللغة العربيّة ساهمت في زيادة المحتوى الرقمي العربي.” (الجزيرة نت ، موقع على الشبكة العنكبوتية )
3 ـ مبادرة : مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية :
أولت المملكة العربية السعودية منذ نشأتها عنايةً خاصة باللغة العربية وقد تضمّنت المادة الأولى لنظام الحكم نصاً صريحاً بأنَّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة ” المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة ، دينها الإسلام ، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولغتها هي اللغة العربية ” (الدكتور عبدالله الشمري , السياسات اللغوية في المملكة , مقال , صحيفة الاقتصادية , عدد 5895/14/12/1430هـ )
واستمراراً لجهود الدولة الموفقة في عنايتها باللغة العربية جاء القرار رقم 104 و تاريخ 6/4/1431. بإنشاء مركزٍ يعُنى باللغة العربية في جميع أنحاء العالم ، باسم ” مركز الملك عبد الله الدولي لخدمة اللغة العربية ” .
وللمركز أهدافٌ تتواءم مع عالمية المركز، ورؤيته ، وقد وردت أهدافه في المادة الثانية من تنظيمه ، وهي :
• المحافظة على سلامة اللغة العربية.
• إيجاد البيئة الملائمة لتطوير وترسيخ اللغة العربية ونشرها.
• الإسهام في دعم اللغة العربية وتعلمها.
• العناية بتحقيق ونشر الدراسات والأبحاث والمراجع اللغوية.
• وضع المصطلحات العلمية واللغوية والأدبية والعمل على توحيدها ونشرها.
• تكريم العلماء والباحثين والمختصين في اللغة العربية.
تقديم الخدمات ذات العلاقة باللغة العربية للأفراد والمؤسسات والهيئات الحكومية .
( موقع مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية ، على الشبكة العنكبوتية )
وهذه بادرة تكشف لنا أهمية اللغة ضمن أولويات صناع القرار السياسي ، لثقتهم في كفاءة اللغة ، وأهميتها في إثراء الفكر على مر القرون ، وما أجمل أن تقوم الحكومات الإسلامية والهيئات والمؤسسات الخيرية والتعليمية والدعوية بافتتاح المدارس والمراكز والمعاهد في مختلف بلاد العالم ، وبخاصة البلاد الإسلامية من أجل نشر لغة القرآن وتقريبها إلى نفوس وقلوب وعقول المسلمين ؛ لأن أمر تعلمها كما يقول شيخ الإسلام ابن تيميه : ” فرض واجب لكونها من الدين ، ولكون فهم الكتاب والسنة من الأمور المتحتمة على المسلمين. وهي لا تفهم إلا بفهم اللغة العربية والقاعدة تقول : إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .”
( ابن تيمية ، اقتضاء الصراط المستقيم )
4-الموافقة على إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية
وهذا حدث لافت وكبير، سيحقق تطلعات كبرى في بلدان العالم إلى جهود المملكة في نشر اللغة العربية وتعليمها.
إن مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية هو حصيلة أحلام اللغويين وطموحاتهم منذ سنوات طويلة لإطلاق مجمع علمي لغوي في المملكة العربية السعودية بما تمثله حيث تحتضن الحرمين الشريفين، وتفتخر بأنها مهبط الوحي، ومنبع العربية وثقافتها ولهجاتها وشعره. وتأسيس هذا المجمع الذي يأتي ضمن المبادرات الكبرى التي تنفذها البلاد لخدمة العربية ونشرها وتمكينها، تضاف إلى جهود عديدة في هذا السياق مثل المراكز اللغوية الوطنية والدولية والكليات والمعاهد وكراسي البحث وغيرها: «من الضروري أن تتمثل رؤى هذا المجمع، وتتكامل في جهودها، وهذا عمل في صميم مجال التخطيط اللغوي، إضافة إلى أن المؤسسات اللغوية تتطلع إلى أن يقود هذا المجمع حركتها الدولية في تمكين لغتنا وهويتنا العربية».
واعتبر الأمين العام لمركز الملك عبد الله الدولي لخدمة اللغة العربية، أن وزارة الثقافة نجحت في إطلاق مبادراتها وفي رهانها على القوة الثقافية في البلاد، لافتاً إلى أن إطلاق المجمع هو أهم مبادراتها لأنه يحقق جميع الأهداف في حزمة واحدة، ويرتبط بسياسة الدولة ورؤيتها، كما يمتد ليشمل جهودا متنوعة في الداخل والخارج، مشيراً في هذا الصدد إلى أنه تم في مركز الملك عبد الله الدولي لخدمة
إن قيمة الالتزام السياسي بدعم اللغة العربية في ظل غيابها عن حقول المعرفة، وضعف حركة التأليف والنشر، وضآلة الميزانيات المرصودة للبحث العلمي في الوطن العربي ، يستوجب على الحكومات العربية مضاعفة الجهد في دعم العربية ؛ فالمسألة تتعلق بالقرار السياسي، لا بفكاءة العربية أو عدم كفاءتها، في مجال العلوم. فهذه الكفاءة لا يطعن فيها إلا مكابر أو حاقد. ونحن نعلم أن الصهاينة أحيوا لغتهم بأن بعثوها من المقابر فأمست في ظرف قصير( في حدود 40 سنة )لغة الإعلام والسياسة والتعليم في كل مراحله، وذلك على الرغم من أن العبرية تدين في نحوها دينونة كاملة للعربية، وعلى الرغم أيضاً من أنها لم تعط الإنسانية شيئاً من الحضارة كما فعلت العربية.
د. علي السرحاني جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز الصحية الرياض
>