مفارقات … طائر مساعد الحزين ،، وطائري الحزين

بقلم / خُزام بن عبدالله

أغلق مساعد الباب في وجوهنا وهو يدخل في قصيدته بحزنٍ أبيض ، لم يترك لنا فرصة أن نحزن بذات الأنفة التي وقف بها في وجه الحزن المنسكب في أعماقه من غمامة الحنين والاشتياق وفرقة الديار والاحبة .

 

حزين من الشتاء وإلا حزين من الظما يا طير
دخيل الريشتين اللي تضمّك حلّ عن عيني

لست على دراية على أي حاسّة حاذقة استطاع أن يستند مساعد حينما قرر أن يختار مبرّرًا لحزن الطائر الذي حادثه في ثنايا قصيدته البيضاء !! هكذا اختار أن يقف حُرًّا أمام الطائر وأن لا يختبئ خلف الكتابة بلسان آخر ، وجّهَ سؤالًا مباشرًا ، هل شتاء الفقد أيها الطائر أم ظمأ الوصال هو ما جعلك تحط على نافذتي بكل هذا الحزن الثقيل الذي لا يشبهه إلّا حزني ؟

مرّة أخرى بذات الشجاعة يقرر اكمال مخاطبة الطائر طالبًا منه الرحيل ( حل عن عيني ) ولكن هذه المرّة كأن مساعد يهزأ بحزنه هو ، إذ قال ريشتين بدلًا من جناحين ،، كأن لسان حاله يقول : أنت مهما تعاظمت تظل أقل من أن يتجشّم جناحان بأكملهما عناء التحليق بك . وكذلك حزن مساعد في عينه ، لم يكن جديرًا بهزيمة أضلع رجل بجسارة مساعد ، يكفيك فقط أطراف صدري وكفى .

اكتب الآن وأنا أقف على ذات الارتفاع الذي كان يقف عليه مساعد تقريبًا حينما دخل من باب قصيدته ، وانتظر طائره ليلقي عليه بكل حزنه دون خشية . أقف في ذات المدينة ، ذات الدولة النائية خلف البحار ، على ذات المسافة من الاحبة والوطن و ( خبز أمي ) وضحكات الرِّفاق ، ولكن الطائر الذي يقف أمامي كان يرفرف ضاحكًا ، كأنه يعلم أن لا أحد سيستطيع مخاطبة طائر بذات القدرة الشاعرية الحزينة كما خاطب مساعد جَدُّ هذا الطائر الماثل أمامي ، وأنا مكتوف اليدين بلا قصيدة  ولا وطن .

ربما أنني كنت أقل شجاعة من مساعد ، بل مؤكد ، وأشبه بضعف أوليفيا لاينغ حينما اختارت أن تدلف إلى داخل كتابها بهدوء المهزومين ، وتكتب أحزانها بعدما وجدت نفسها وحيدةً بلا وطنها الذي غادرته على وعد حبيبٍ لم يفِ لها ، مجردةً حتى من قدرة البكاء بشموخ المغترب الحزين البائس ، فاختارت أن تكتب عن وحدة فنانين وجدت حكاياتهم موزّعةً بين متاحف نيويورك وميدان التايم واضواءه التي لا تنام .

لم أستطع البكاء كما استطاع أن يخدعنا مساعد بذكاء شاعريٍ ، وأن يبكي بصوتٍ عالٍ جدًا ، صوت تتلهب له كفوفنًا تصفيقًا بينما هو كان يبكي بطريقة الاستجداء الفاخر .

دخيل الما وملح الما وحزن الما قبل ما تطير
تهبّا للهبوب اللي تصافق في شراييني

لم يكن هذا الاستجداء إلّا بكاء لن يتفهّم مرارته إلّا من ذاق ذات اللوعة التي حرّضت مساعد أو يواري الدموع في مصطلح أكثر نعومة وأكثر اتساعًا ، لم يقل الحقيقة كما أراد .

دخيل ( الدمع ) وملح ( الدمع ) وحزن ( الدمع ) قبل ما تطير

عليك الاستعداد أن ترتقي أكتاف التنهيدة الخارجة من صدري أيها الطائر .. هكذا قال مساعد في الشطر الثاني للطائر ……

( الهبوب اللي تصافق في شراييني ) ليست إلّا تضخّم حميد في تنهيدة لم يسطع مساعد غير توديعها في هذا الشطر ثم المضيْ .

ثم مضى مساعد متبخترًا بحزنه بين بقيّة أبيات القصيدة كفارسٍ يسير في نهاية المعركة ودماء الخصوم تقطر من سيفه وهو ينشد دون الالتفات لأحدهم …

ترى لو شفت لي ظل ومهابة في عيون الغير

لم يبُحْ مساعد بضعفه في خضم المعركة ، بل بقي شجاعًا شامخًا يرتدي درع تساؤلاته حتى خرج لنا من ذات الباب الذي ولج به قصيدته معلنًا ….

ترى كل الزهاب اللي معي جرحي وسكيني

والآن هاهو طائري يستعد للتحليق وأنا لا زلت عاجز عن صياغة حزني أو حتى الوشاية به ، شاهدني الطائر أرتدي ثوب جُبني واتوارى خلف ما قالته أوليفيا لاينغ حزينةً ذات مساء شتوي : القرب المادي وحده لا يكفي لتبديد الشعور الداخلي بالوحدة ، إنه من الممكن والسهل حتى أن تشعر بأنك بائس ومهجور وأنت محاط بالآخرين .

 

مخرج حزين جدًا ،، تمنّيت لو بقيت مناجاة مساعد طائره كما هي حزنًا خامًا مجردًا من أصوات الغناء ، من مهدئات الذين لم يعبروا من خلال حنجرة مساعد ، ولم ينسكبوا من جوف الغمامة التي أمطرت حزنه يومًا .

ليلة شتوية أخرى  .

شاهد أيضاً

إن خانتك قواك ما خانك ربك ولا خانك ظناك

بقلم: ابراهيم العسكري تعرضت قبل فترة لعارض صحي اعياني من الحركة وارقني من النوم واثقل …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com