
صحيفة عسير ـ إعداد – سهام ورقنجي
في عمق الجنوب السعودي، وتحديدًا في منطقة نجران، تتشكّل قصة زراعية متجددة عنوانها “العنب” حيث تحوّلت آلاف العناقيد المعلّقة بين ظلال العرائش إلى مورد اقتصادي نابض يعكس تمازج الإنسان مع الأرض والمناخ والتقاليد. هنا، لا تُحصد الثمار فحسب بل تُجنى معها ثمار الاستدامة، الاكتفاء، والانتماء الزراعي.
الجغرافيا تخطّ سطور الخصوبة
تمتد مزارع العنب في نجران على مساحة 67 هكتارًا، موزّعة على أكثر من 420 مزرعة في محافظات: حبونا، يدمة، بدر الجنوب ثار ونجران المدينة.
يفرض الموقع الجغرافي للمنطقة – بفضل التربة الرسوبية والمناخ المعتدل ووفرة المياه الجوفية – حضورًا بيئيًا فريدًا جعل من نجران بيئة مثالية لزراعة العنب، منذ عقود طويلة.
من الغرس إلى القطاف.. دورة حياة تواكب الجودة
في نجران، تبدأ دورة العنب من الترقيد لا من البذور، حيث تُزرع القصبة لتخرج نباتًا جديدًا ثم تُبنى له عرائش تقليدية بأعمدة الأثل لتُحمى الأغصان وتتمدد أفقيًا.
ومع دخول أشهر الصيف يبدأ موسم الحصاد بعد رحلة زراعية دامت أكثر من 5 أشهر، نُفّذت خلالها مراحل دقيقة تشمل التقليم التسميد، الري والمراقبة اليومية بأساليب تُراعي الجودة والإنتاجية.
أرقام الإنتاج: اكتفاء محلي ومساهمة وطنية
• إجمالي إنتاج نجران السنوي من العنب: 3,000 طن.
• يُشكّل هذا الرقم نسبة معتبرة ضمن الإنتاج الوطني الذي يبلغ 101,500 طن، محققًا اكتفاءً ذاتيًا بنسبة 59% من الاستهلاك المحلي.
• تُغطّي نجران احتياجاتها المحلية بشكل كامل، وتُصدر الفائض إلى مدن مثل الرياض، جازان، عسير، إضافة إلى أسواق خليجية محدودة.
تنوع الأصناف… وذوق المستهلك
تزدهر المزارع بأصناف متنوعة تلبي ذائقة المستهلك، من أشهرها:
• الرازقي: حلو المذاق، كثيف الإنتاج.
• الحلواني: عنقوده طويل وناضج مبكرًا.
• البلاك سيدلس والوايت سيدلس: صنفان خاليان من البذور، مطلوبان تجاريًا.
هذا التنوع منح السوق المحلية قدرة على المنافسة، وعزّز فرص البيع المباشر والتصدير.
العنب النجراني.. علامة جودة
ما يميز عنب نجران ليس حجمه ولا لونه فقط، بل حلاوة مذاقه، امتلاء الحبة، وتجانس الحجم. وتعود هذه الجودة لعوامل طبيعية وبيئية، أبرزها:
• المناخ المعتدل في فترات التزهير.
• الري بالتنقيط ووفرة المياه الجوفية.
• نقاء التربة وخلوها من الملوحة المرتفعة.
وهو ما جعله مفضلًا لدى المستهلكين على المستوى المحلي والخليجي.
من الحقل إلى السوق: رحلة تُحفظ بالتبريد
تبدأ مرحلة ما بعد الحصاد بفرز العناقيد يدويًا، ثم تعبئتها في صناديق كرتونية مخصصة تحافظ على الطزاجة. ومع تطور وسائل النقل تبنّى المزارعون في نجران مؤخرًا تقنيات النقل بالتبريد الجزئي خاصةً للمنتج المتّجه إلى المدن البعيدة ما قلّل من الفاقد ورفع مستوى الرضى الاستهلاكي.
التحديات: بين الماء والتسويق
رغم النجاح المتنامي تواجه زراعة العنب في نجران تحدياتٍ بنيوية، أبرزها:
1. شحّ المياه: الاعتماد على المياه الجوفية يهدد استدامة الزراعة على المدى البعيد.
2. نقص البُنية التحتية: غياب مراكز تبريد رئيسية يؤثر على التوزيع الخارجي.
3. تسويق تقليدي: لا تزال معظم عمليات التسويق تعتمد على الوسطاء، ما يقلل من هامش الربح للمزارع.
4. الزراعة الفردية: غياب التنظيم التعاوني بين المزارعين يُضعف قدرتهم التفاوضية ويقلل الكفاءة الاقتصادية.
الجهات الحكومية الداعمة
تتصدّر وزارة البيئة والمياه والزراعة الجهات الرسمية الراعية لهذا القطاع من خلال:
• برامج الإرشاد الزراعي والتدريب.
• تشجيع الزراعة العضوية واستخدام الري بالتنقيط.
• تطوير ممارسات مستدامة لخفض الفاقد ورفع الجودة.
كما يسهم مركز أبحاث تطوير البستنة بنجران في تقديم شتلات محسّنة، ودراسات علمية حول أفضل ممارسات العناية بالعنب.
وتسعى الوزارة إلى تمكين المزارع الصغير من خلال:
• إدخاله في سلاسل الإمداد.
• توفير منصات تسويقية رقمية تربطه بالمستهلك مباشرة.
مستقبل زراعة العنب في نجران: نحو القيمة المضافة
رؤية المملكة 2030 دفعت القطاع الزراعي إلى التحوّل من مجرد إنتاج خام إلى صناعة زراعية واعدة.
وفي نجران، يبدو العنب مرشّحًا لأن يكون نواة لتصنيع غذائي يشمل:
• إنتاج عصائر عضوية.
• تجفيف وتعبئة العنب.
• استخدامه في الصناعات التجميلية والطبية.
إن تعزيز هذه الصناعة سيوفّر فرصًا استثمارية جديدة، ويحوّل العنب من “موسم” إلى “اقتصاد” دائم.
زراعة العنب في نجران ليست مجرد نشاط زراعي، بل قصة نجاح حيّة تسردها العرائش كل موسم، وتحمل في طيّاتها توازنًا نادرًا بين الإرث البيئي والطموح الاقتصادي.
ومع دعم الدولة، ووعي المزارع، وتنامي الطلب المحلي والإقليمي، يبدو أن عناقيد نجران ماضية في التمدد، ليس فقط على الأسلاك، بل في أسواق الوطن والخليج… وعلى موائد المستقبل
عسير صحيفة عسير الإلكترونية