أهازيج الحصاد في عسير.. أنشودة الأرض والإنسان

✍️ بقلم: لاحق بن عبدالله : الشبارقة

حين كانت شمس الصيف تلامس سفوح الجبال في عسير، وتتلألأ على مدرجاتها الخضراء، كان صوت الأرض يعلو من بين سنابل القمح وأغصان الذرة.

ذلك الصوت الذي يتردّد في الوديان والسهول وبين الحقول لم يكن سوى أهازيج الحصاد الأناشيد التي تملأ القلوب حماسًا وتغمر النفوس فرحًا واعتزازًا.

عندما كنت أرافق والدي وشباب قريتنا في موسم الحصاد فيما مضى وأستمع إلى أصواتهم الشجية تملأ المكان دفئًا وحياةً وحماساً:

وهم يرددون بصوتٍ متناغمٍ واحد

 

[غابت الشمس وبلادي بعيدة

والله أعلم متى نا واصلنها]

 

كلمات بسيطة، لكنها تختزن معاني الصبر والشوق والرجاء.

كان الحصاد في عسير أكثر من عملٍ زراعي ،كان عرسًا جماعيًا تتداخل فيه أنفاس التعب مع أنغام الفرح، وتغدو الأهازيج وقودًا للهمم التي لا تعرف الكلل أو الملل.

 

ومع غروب الشمس، كانت تتردد أنشودة أخرى تفيض بالعاطفة والصدق تقول كلماتها:-

[يا شمس يا غاربة تريّضي لي قليل وامشي مع (ام قافلة ) يومٍ حملي ثقيل]

 

كلمات تعبّر عن الإنسان العسيري في صفائه وبساطته وكفاحه يناجي الشمس كأنها رفيقة دربه يطلب منها التريث ليكمل طريقه المثقل بالعناء

لكنه يمضي رغم التعب، مؤمنًا بأن رزقه مرهون  بجهده وصبره.

 

لم تكن الزراعة في عسير مهنةً فحسب بل كانت شرفًا واعتزازًا.

كان أهل المنطقة يقدّسون أرضهم ولازالوا يرون فيها رمز الكرامة والاكتفاء.

تزيّنت الجبال بمدرجاتٍ خضراء تنبض بالحياة، تُروى بمياه المطر والسيول، وتُزرع فيها الحبوب والفواكه المحلية التي شكّلت أساس المعيشة لعقودٍ طويلة.

كانت الأسرة العسيرية تعيش من نتاج أرضها، وتتباهى بما تحصده من خيرها.

وكان التعاون في الزرع والحصاد سمةً أصيلةً في المجتمع العسيري فالعمل جماعي، والأهازيج توحّد القلوب بوجدانٍ واحد، يرددها الناس وكأنها نشيد الوطن الصغير في كل قرية ووادٍ وجبل.

 

غير أن الزمن تغيّر، وتغيّرت معه الحياة.

هجر كثيرٌ من الناس مدرجاتهم الخصبة إلى حياة المدن، فغابت الأهازيج، وجفّت الجداول، وسكتت الأصوات التي كانت تملأ الجبال نغمًا وفرحًا.

ضعف الاهتمام بالزراعة، وتراجعت العناية بالأرض التي كانت يومًا مصدر القوت والعزّة.

 

ومع ذلك، تبقى ذكريات الحصاد وأهازيجه محفورةً في الذاكرة، شاهدةً على زمنٍ كانت فيه الأرض والإنسان في حوارٍ جميلٍ لا ينقطع.

فمن تلك الأصوات التي رافقت طفولتنا نتعلّم أن حب الأرض لا يذبل وأن كل حبة ترابٍ كانت يومًا تنبض بالحياة وتنتظر أن نعود إليها من جديد

فهل من عودة ؟؟

أتمنى ذلك

شاهد أيضاً

نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام يتطوع ليكون مسؤول المالية

بقلم الكاتب/ عوض بن صليم القحطاني أشار القرآن الحكيم إلى نماذج من تطوع نبي الله …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com