من أستطاع أن يفتدي بملء الأرض ذهباً،وينأى بنفسه عن القتل فليفعل…فإنه((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يُصب دما حراما) ) كما قال صلى الله عليه وسلم …
استوقفتني آية عظيمة في كتاب الله،وكل كلام الله عظيم ،وأنا أتلوها على طلابي من سورة المائدة ،وهي قول الله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فأخذت من خلالها أتحدث عن جريمة القتل ،وعظمها، وكنت ألحظ أحد طلابي تتغير ملامح وجهه ،وتبدو عليه علامات الحزن ،وتخنقه العبرة ،ففضلت أن أقطع حديثي ،وأُتم تلاوة درسي، وحرصت أن أسمع من هذا الطالب على انفراد، فأخذ يسرد لي قصة قتل وقعت من أحد أقاربه،انتهت به إلى أن يكون وراء القضبان ،ينتظر ولي الدم منذ أكثر من ثمان سنوات….
بالطبع ليس القاتل وحده هو الذي يمتلئ حزنا،وحسرة ،وألماً ،وإنما محيط الحزن يتسع ليمتد إلى أقارب القاتل والمقتول، ذكرهم وأنثاهم ،صغيرهم وكبيرهم ،وحالة الطوارئ تصل إلى أقصى حدٍ لها ،يلتمسون العفو من أولياء الدم بكل الطرق ،وعبر جميع الوسائل ،ولكن ولات حين مناص.
بعض أولياء الدم يدفع نحو تطبيق القاعدة الشرعية ((ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ))ولو أُعطي الدنيا بأكملها لم يقبلها مع حاجته،والبعض يطالب بمبالغ تعجيزية ،تصل إلى عشرين مليون ريال ،ويتم دفعها، وسمعنا،وقرأنا عن ذلك، والبعض يعفو ((فمن عفا وأصلح فأجره على الله))
أما كان حرياً بالقاتل أن ينأى بنفسه عن هذه الجريمة العظيمة التي تلاحقه مع كل نفس ،وفي كل طرفة عين ،لا يهنأ بمنام ،ولا بقليل من طعام وشراب ،يرى قطرات الدماء تلاحقه ،وتحاكمه ،وتخاصمه ،وتغالبه ،فلا إله إلا الله !!!كم آلاف العذابات،والآهات،والزفرات،أعقبت جريمة القتل،غم ،وهم ،وسهر ،وندم ،وحسرة،وفي الآخرة المفاجأة العظمى ،والطامة الكبرى ، يأتي المقتول كما روى أحمد والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله علبه وسلم قال:” يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني حتى يدنيه من العرش”.
لماذا قتلني يارب !! أضاع أسرتي ،يتم أطفالي ،غدر بي ،سلب حقي في الحياة؟؟!
لماذا قتلني يارب وأنا مسلم معصوم الدم وشهادة ألا إله إلا الله تشهد لي فما حجته في قتلي؟؟!
لماذا قتلني يارب؟؟((وزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ))رواه الترمذي والنسائي.
لماذا قتلني يارب؟؟! لماذا؟؟.. ولماذا؟؟.. ولماذا؟؟..
فيقضي الرب ،وأول ما يقضي في الحقوق، مسائل الدماء،فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء))فيا إلهي أين القاتل من قول الحق تبارك وتعالى:وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً .
ما قيمة الحياة والمصير مكشوف ((فجزاؤه جهنم!!))
وما قيمة الحياة وغضب الله ،وسخطه ،ومقته ،ولعنته ،ترافق القاتل صباح مساء!!((مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)).
أما علمت أنك أيها القاتل تخليت عن كل المشاعر ،والأحاسيس ،والعواطف الإنسانية ،وتجاهلت نداءات الاستغاثة من المقتول ،وخلا قلبك من كل معاني الرحمة ،والشفقة،والصفح،والعفو،والإنسانية،وأخوة الدين،فأصبح قلبك كالحجارة أو أشد قسوة ،وقتلت الناس جميعا…..حقاً ودون أدنى شك أنك أيها القاتل خرقت قواعد الضبط الاجتماعي ،وتحولت إلى وحش مفترس،يطبق شريعة الافتراس ،شريعة الغاب ،في مشهد همجي،عدواني ،تتفطر له القلوب،ولم تعلم أيها القاتل أن الناس خُلقوا من أجل أن يتحابوا ،لا ذئاباً يتقاتلوا.
ربما أني عنَّفتُ وضيقت وحجرت على القاتل بقدر ما اقترف من أمر عظيم، فاعذرني أيها القاتل ،إلاَّ أني كنت أتمنى أنَّك استمعت إلى صوت الشرع والعقل قبل أن تُقدم على فعلتك التي فعلت فأصبحت من الخاسرين ،وأمام هذا الذنب العظيم إلا أن رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء،تسع القاتل إذا هو صدق في توبته مع الله ،وإن كان أهل العلم قد تكلموا طويلاً في قبول توبة القاتل،والذي عليه الجمهور صِحَّتُ توبته لعموم قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)
وأنا حينما أتحدث عن هذه الجريمة لم آت بجديد ،فالنصوص الشرعية واضحة المعالم في هذه القضية ،وقد أتت مؤكَّدة على حرمة المسلم ،دمه ،وماله ،وعرضه…وتأملوا معي لفتة الرسول صلى الله عليه وسلم الكبيرة وهو يؤكد حرمة دم المسلم حينما التصق صلى الله عليه وسلم بالكعبة وهو يطوف حولها فقال:(( ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرا ))
لا خلاف بين اثنين في عظم هذه الجريمة لكن المشكلة أن جريمة القتل في زمننا تجاوزت الخطوط الحمراء،وزادت بشاعتها،فأزكمت أنوفنا ،وأدمعت عيوننا ،وأدمت قلوبنا، ونحن نسمع بمن قتل أمه ،وأباه ،وشقيقه ،وخادمته ،وأهل بيته ،وسمعنا بمن فخخ ،وفجر منشآت وطنه ،وما رافق هذا القتل من احترافية في مسرح الجريمة، وبدم بارد من أجل بطولات زائفة؟وعداوات باطلة؟ ومتاع زائل؟والله المستعان..
ووالله إن الألم يعصر الفؤاد ونحن نرى الأشلاء الممزقة والجثث المتناثرة في وطننا العربي والإسلامي فيما يسمى بالربيع العربي ،وعصر الثورات ،وتعجب حينما تسمع الكل يُكبر (( الله أكبر الله أكبر )) ولا يمنعه تكبيره أن يُشهر سلاحه في وجه أخيه المسلم هذا في ((المعارضة وذاك مع النظام الحاكم)) والمشترك أنهم مسلمون يشهدون ألا إله إلا الله يقتل بعضهم بعضا ما يؤكد أننا في زمن الهرج والمرج ،في زمن لا يدري القاتل فيما قتل ،و لا المقتول فيم قتل ،كما قال الصادق المصدوق فاللهم يارب سلم سلم….فمن أستطاع أن يفتدي بملء الأرض ذهباً وينأى بنفسه عن الفتن فليفعل…
>
شاهد أيضاً
الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة
صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل : انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …