لايكاد يخلو ديوان شاعر من الحنين إلى الزمن، حتى إن هذا الحنين يتحول مع تكراره، إلى نوع من الغربة النفسية، التي تجعلُ الإنسان يشعرُ بالحنين إلى زمنٍ مضى، ويتمنى عودة الماضي. وهي تتداخلُ مع الشكوى الناجمة عن القلق، والشعور بالحيف، وتتابع فواجع الدهر.
ويمكنُ أن يصبحَ الحنينُ إلى الزمن الماضي موقفاً رافضاً لقيَم الحاضر، وما يتبَعُ ذلك من اضطراب ثقة الشاعر بمن حوله، نتيجة عدم قدرتِه على التكيف مع البنية المجتمعية المحيطة به، حتى إن قصيدة الحنين إلى الزمن قد تتحول إلى حنقٍ على الدهر، وعلى المجتمع والحياة بأسرها، مما يجعلها لونا من ألوان الغربة الفكرية.
وشعراء الريف أكثر الشعراء حنيناً إلى الزمن الماضي؛ فهم يُصدمون بمظاهر المدنية الحديثة، لتتداعى على أذهانِهم صُورُ الزمن الماضي، وأيام الطفولة، ببراءتيها: براءة الحياة الريفية الفطرية, وبراءة الطفولة، التي تهبُ معانيَ الحنين سمةً مُحببة، ذلك أن الطفولة ـ كما يقول الدكتور عمر الدقاق ـ: “عالمٌ مرحٌ لم تسد صفحتَه الآلام، ولم تذهب برونقه الأحزان، إنه عالمٌ محببٌ إلى الشاعر الغريب، لأنه يمده بصورة مشرقةٍ مضيئة يعيش عليها في مواجهة الصورة العابسة التي يعيشُها في مُغتربِه، وكأنها استرخاءٌ عذْب للنفْس المُعناة على وسادة مخملية من الذكريات الحلوة”، ويغلب أن يرتبط الحنين إلى الطفولة بالحنين إلى حياة الريف، يقول الدكتور محمد عادل الهاشمي عن عالم الطفولة في أحضان القُرى: “وهو عالَمٌ رحيبٌ تكسوهُ الأحلامُ والمشاعرُ البِكر…. والحنينُ إلى الطفولَة مَعْلَمٌ إنساني ينبضُ بأُنسِ الذكرى وعُذوبَة الوفاء… وأبناءُ القرية بخاصة يؤرقُهم هذا الحنين، ذلك أن ما يجدونه مِن مُفَارقات بين حياة القرية والمدينة، يجعل نداء الفطرة في نفوسِهم أعلى صوتاً، وأكثرَ شداً إلى أحضانِ الطبيعة، وأُنسِها، وهدوئها، وأمْنِها، وبساطتِها، وطُهْرِها”، وعلى النقيضِ من هذه الصورة الرومانسية الحالمة لعوالم الحياة القروية، تكونُ المدينةُ – عند شعراء الأرياف- قرينةً للغربة والتمزق والصخب والتهافت على المادة، وهي حالٌ عامةٌ، فالمدينة في الشعر العربي، قرينة الضياع والزحام والقلق والألم، مما يولد الصراع بين قيم الذات، وقيم المحيط. إن الحنين إلى الزمن الريفي، والحياة اليسيرة، و “خبز الأم”، و”تعب الطفولة”، يجعل من وصف صباحات القرى ومساءاتِها وممارسات ساكنيها، نوعاً من التعاطف الدال على الرضا، يشي بذلك التلذذ بسرد مشاهد تلك الحياة، أو الأسى عند استحضار غياب تلك المشاهد الريفية عن الزمن الحاضر، ليصيرَ الحنينُ إليها رومانسيةً ذات مذاقٍ خاص، مما يبتعد ببعض النصوص عن التفسير الفلسفي العميق الذي يذهبُ إليه بعض النقاد، ويجعلُ من النص قطعةً تتغنى بجمال الحياة القروية بوصفها ملاذاً.>
شاهد أيضاً
أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري
صحيفة عسير – مها القحطاني : استقبل صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلطان بن …