شِيعة وطن..

لديّ بُحيثٌ مخطوط بيدي – قبل كيبورديَّتي – قدّمته في السنة الجامعية الرابعة من كلية اللغة العربية بجامعة الإمام بالرياض – انتسابا، أشرف عليه المرحوم الدكتور: عبدالرحمن رأفت الباشا، موضوعه: سيد قطب – حياته – آثاره – عرضٌ وتقويم. كنتُ فرحا عندما وصلتُ فيه إلى أن سبب مقتله وصحبه كان سياسيا بحتا وليس بسبب خلاف عقَدِيّ مع حكم عبد الناصر، مشيرا إلى أن السياسة عبر العصور الإسلامية كانتْ تستخدمُ العقيدةَ مطيّةً لها حتّى تلاعنَ الأمويون وشيعةُ عليّ والخوارج على المنابر، وتبعهم بنو العباس وهكذا دواليك.. مفاجأتي – آنذاكم – التي وأدتْ فرحتي بل الأهم وأدتْ درجاتي، أنه منحني خمسين درجةً من المئة درجة صدقةً وإعانةً منه لي، مرفقا ورقةً بخط يده يتمنى لي لو أنني دخلتُ نفحات الإيمان مع آراء سيد قطب وصحبه! فلمْ يكنْ أحدٌ مناّ يحلم بالنجاح المنشود ما لم يكن كتاب (معالم في الطريق) وكتب أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي وأمثالهم تحظى باهتمامه، بل ونقدم فيها البحوث والمناقشات المثرية.. وبعد أن انجلى الخلط بين السياسة والآراء الدينية ها نحن نرى أن سحب تلكم الكتب من المكتبات أمرٌ عاديّ جدا، ولا أحدَ يكفِّرُ أصحابها، كما لا أحدَ من حملتها أو حفظتها الذين كانوا يفرضونها علينا يستغرب سحبها! السبب – كما أرى – هو: نضجُ الفكر البشري عموما عن طريق ثراء الحوارات عن السياسة التي صارتْ هدفا ليس عليه تبرير وجوده بأنه يمثّلُ الدين، وصار يمكنُ القول بأن بدايات الانقسام الإسلامي بين علي ومعاوية كانتْ سياسيةً بين صحابيين جليلين كلاهما له مبرره السياسي بفهمه للدين، ثم غلبَ جانب على آخر!

والتّشيّع لا يخلو من أحد مبرّرين لا ثالث لهما:

أحدهما: هو المبرر السياسي للحكم والسيادة، وفي هذه الحالة لا ضرورة لظلم عامّة الناس من المسلمين بإقناعهم بمهدي منتظرٍ يتولّى الأمر نيابة عنه فقيه يصرّ على إقناع الناس بغيبيات كهنوتية لم يتولّ تحقيقها أصوليا فقهاءُ حديثون مقنعون حتى اليوم كغيرها من مسائل الفقه التي لا تزال نتيجة ما قاله فقهاء القرون المنصرمة. تبريرات لمجرد تسويغ السيادة والسياسة التي طالما اقتتل الناس عليها باسم أديانهم ومذاهبهم قرونا من الدهر! ثمّ لماذا تتركزُ هذه النيابة عن المُنتظر في أماكن معيّنة وكأن الأماكن الإسلامية الأخرى جميعا تجهلُ ذلكم المنتظر ولا يُعلمُ عنه شيء سوى في هذه الأماكن التي توارثت مراكزها تلكم من خلال توارث تاريخ النزاع السياسي على السلطة؟ وإذا كان هذا التوارث التاريخي هو السبب خلال عصور مظلمةٍ فلمَ لا يكون هناك إعادة تحقيق فقهي عالي المستوى يجتمع له من يُعتدّ بمستواهم الفقهي والأصولي والسياسي العالمي؟

ثانيهما: هو المبرر الديني العقدي الذي غُرِسَ أيضا عبر التاريخ على الإيمان بضرورة وجود معصوم يمثِّلُ آل البيت وتقديسهم. وفي هذه الحالة، يجتمع كل المسلمين على فضل آل البيت، وليس هناك مصلّ لا يقرن الصلاة على النبي بها على آله، ويفترقون عند العصمة أو الأحقية المطلقتين، وهنا تؤول القضية إلى السياسة والسلطوية..

أقول هذا تقدِمةً لما أودُ قوله لأهلنا من الشيعة الرائعين في مناطقنا، فهمْ من خيرة أبناء رجالات العرب، وهم – كما أرى – لا يخضعون لمفهوم (الأقليات) المعروف عالميا، لأن مفاهيمهم تختلف عن المفاهيم التي اختلطتْ فيها الولاية بالعصمة المطلقة، والتي صارتْ من ضرورات الطقوس البشرية التي نراها في كثير من البلدان خصوصا في آسيا وأواسط إفريقيا.. شِيعتنا يحق لهم التشيع الديني، وعليهم ولهم الحوار الصريح مع المذاهب الأخرى بحيثُ يمكنهم تشكيل لجان علمية عالية المستوى إسلاميا من الفقهاء غير المتعصبين إلى الرأي المذهبي الأحادي كالعلامة يوسف القرضاوي وفقهاء المذاهب الأخرى، بحيثُ يستطيعون جلاء حقيقة التشيّع بدايةً بتاريخه الدقيق وصولا إلى ما يجبُ اعتقاده..

ذلكم أجلى وأنقى من بقاء قضية التشيّع خاضعةً سياسيا للإرادات التي تؤجج عامّة الناس ممّنْ لا يدركون التاريخ ولا فقه النصوص مكتفين بحفظها على فهم عامّي لا يفقه ما يحفظه، كما نراه في الفتاوى عبر القنوات والمواقع الإلكترونية وبعض المساجد والمطبوعات، ولمَ لا تتاحُ أيضا فرص أكثر في هذا المجال للحوار الداخلي كي تتكون لهم أرضية حوارية مع من ذكرتهم من كبار الفقهاء؟

ومن يتمل في ثقافتهم ودرجة الحس الثقافي لديهم ومدى إخلاصهم لما يعتقدونه يجد علوّ المستوى وريادته واضحة مبهجة، ويعلمُ أن السبب الحقيقي في إذكاء بعض الفتن المرتبطة بما يرونه ليس سوى جهل كثير ممن يتعاملون معهم ممنْ اعتاد على أحاديّة الفهم والرأي دون أن يدركَ أن الزمن لم يعدْ بين يديه، بل صار ملكا وحقا للكل بشكلٍ أو بآخر، ولنْ يزيدَ بعدُ أهلنا الشيعة عن أهلهم سوى تأسيس ما لا يتمناه أحد من التباعد بين الأهل في الدم والوطن، ولا وجه للمقارنة بين شيعتنا وغيرهم ممن ينطبق عليهم أو على غيرهم في بلادهم مصطلح (أقلّية)، فهنا وطن الأهل بكل مذاهبه التي يجبُ أن تصبَّ جميعها في كوثر الحرِّيَّة. >

شاهد أيضاً

مجلس الشورى يعقد جلسته العادية الخامسة من أعمال السنة الثانية للدورة التاسعة

صحيفة عسير ــ واس عقد مجلس الشورى اليوم الاثنين، جلسته العادية الخامسة من أعمال السنة …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com