رحلة في فصول العرب

كانت الأدلجة الروحية والادّعائية تتحكم في سيرورة التاريخ سياسة وفكرا ومجتمعا. وكانت مبررا وحيدا لنمط التفكير وفرض القناعات. فالحاكم ورث الحكم باسم الله عن حكم ألوهي مِلْكِيّ كما كان في مصر أو غيرها، ثم انتقلتْ ألوهيته إلى كونه القائم بأمر الله، وطاعتُه من طاعة الله.. حتى دخل منها عالمنا العربي دنيا الاستعمار الأوربي، لتبدأ الثورات التحريرية بأنواعها، التي أحالت حكم القائد إلى نمطٍ آخر من الأدلجة، تنطلق من أن هذا القائد هو المحرر والباني الذي لولاه لما مات الشهداء، ولا ارتفع للأوطان شأن، وبالتالي نشأ نوع أيديولوجي جديد يتمحور حول القائد الملهم تصب حوله كل المقدّرات المعنوية والمادية، مستخدما تلكم الشعارات التي نجحتْ باسمها الثورات التحريرية كالقومية والاشتراكية والوحدة والدين، وكل هذا باسم الشعب الذي يفديه بالروح والدم.. وتبقى الأمة مجموعة من الرعايا التي يهتم بها الراعي.. وكان هناك قابلية رعوية مكتسبة لدى هذه الرعايا، لأنها ورثتْ رعويّة الشعب والفرد منذ آلاف السنين. ثم جاء عصر الاتصال والإعلام المرئي الذي وصل بنا إلى ما نحن فيه من قروية العالم. خلال فترة الانفجار الاتصالي هذه كان نصيبنا في العالم العربي من رياح التغيير مساويا في حجمه وقوته ما نحمله من تاريخ في مجال الأدلجة الرعوية.. كان نصيبنا من هذه الرياح مبتدئا بالهزائم غير المبررة أمام مؤسسة صغيرة تمثل -في رأي داعميها- قوى الحرية والديمقراطية وأسموها إسرائيل. ولشدة وقع الهزيمة على الضمير الجمعي إضافة إلى شدة ضغط الجاثمين على صدر عالمنا العربي من تلك الرموز التي ترى تمثيلها حرّية الأمة وحدها، لشدة هذا وصل الأمر برمز الديمقراطية والتحرر (أمريكا) إلى ما حدث لها في سبتمبر، وما حدث منها في العراق وأفغانستان، وإلى نشأة فكرة (الفوضى الخلاقة) ودعم العالم الديمقراطي هذه الفكرة.

نشأت أجيال تحمل كل هذا التاريخ، وتطلع عليه عبر شاشة (الآيباد) دون حاجة إلى الدراسات والمكتبات، واكتشفتْ أن لعبة الأيديولوجيا والدين تستخدم استخداما سياسيا من القائم بأمره باسم الله والوطن، ولم يعدْ هناك مجال للجهل المسوِّغ لانقياد الشعوب الأعمى، وصارت الرعية ترى رعويتها الفردية عيبا إنسانيا، فبدأت تصر على أن الرعوية ينبغي أن تكون للقوانين لا للأشخاص.

حدث تعبيرها في تونس تحت رمز (إذا الشعب يوما أراد الحياة)، وتلتها مصر الممتلئة بالريادة العربية التي وأدتها حاكمية الحاكم الوحيد بأمر الشعب عبر تاريخها، ثم جاءت الطامة الكبرى التي صدمتْ زعيما أكبر من كلمة (رئيس) في ليبيا حين انفجر شعب لم يستطع مترمّزُه أن يستوعب أن من خرج عليه ليست مجموعةً من الجرذان!

وجاءت بقية الدول ليعاني زعماؤها نفس الحال والمآل، دون القدرة على استيعاب المتغيرات الديالكتيكية التي لا يمكن إلا أن تكون تغييرا جذريا في حياة الشعوب.

في غمرة هذا الانفجار الاتصالي الهائل في العالم كله والشعبي في العالم العربي، يأتي سؤالنا عن مستقبل الثقافة العربية. فقد وصلت الحياة في واقعها إلى درجة سبق الفعل على التنظير.. لقد انتهت الحدود بين البشر ولم يبق منها سوى بقايا نظرية، فأنا الآن أكتب وأنا في زحمة التواصل مع الكثيرعلى شاشة (الفيس بوك)، لذلكم سيكون منهجي في كتابتي غير منهجيّ، بل يخضع لظرف الشاشات. ففي مجال الأدب: ستختصر الروايات إلى فعل درامي مباشر دون الحاجة إلى كتبة يقبعون في زوايا مظلمة عن الحياة والكون، وسيكون الشعر كونيا لا مكانيا، وسيكون المسرح كما حدث في شارع (بورقيبة) حين نزول صاحبه على (رُكح) الحياة صائحا: فلان رحل.. وستسقط تلكم الأمراض النرجسية التي عانى منها الناس كثيرا في مثقفينا لمجرد أنهم كتَبَة، وستكون العلاقة بالله مباحة سهلة لا تحتاج إلى متحدّثٍ رسميّ باسم الخالق..

سيجوز لكل من أراد الكتابة أن يكتب دون حَجْر، ولم يعدْ هناك قدرة على منع أحد من كتابته أو تفكيره في بلده..

ستكتشف ثقافتنا العربية أنها عالمية من مكانها، وسيكون الشعب مجرد منتقٍ اختياري لما تكتبه أنت من هنا كغيره من شعوب الأرض..

سيكفيك أيها العربي ذاتَ يوم أنك مبدعٌ إنسان..

أما دلائل الفصول بعد الربيع العربي فمنها:

– أن يتحصّن بقوة القمع أي زعيم في وجه شعبٍه الصارخ: لا نريدك، بعد أن انجلت مرحلة عصمة الزعامات..

– أن يبدأ المتنفذون المفسدون بنهب ما أمكنهم باسم المشروعات الضخمة غير المنظورة والخدمات والرأفة بالشعب و… و…

– أن ترى الحفاة العراة العَالَةَ رعَاءَ الشَّاءِ يتطاولون في الديمقراطية…
>

شاهد أيضاً

الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة

صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل :  انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com