منْ مواسمِ (ذِيْبانْ)..

عُدْتُ إلى أنِيسي بقريتي (ذيبان) الذي استعان بي -ضمن رعاء الشاء الذين تطاولوا في البنيان حسبَِ نصٍّ شرعيّ استدلّ به على قربِ قيام الساعة- لمحاولة تطويرأسلوب رعْيِنا وحياتنا بمقتضيات الموسم البترودولارِيّ.. اشترطتُ عليه الصبر على متابعتي العالم بواسطة (تويتر) وجهازي الحديث (آيبان)، لكنَّ مشكلتي معه كانت في قضية الضّحك المتواصل! هو واصلَ حركة غنمه مقَهْقِهاً في وجهي ناظراً معي إلى الشاشة عن مقتل الزعيم -رحمه الله- وهو لا يعلم (ولا يهمه العلم) ما الذي أشاهده ولا من هو فخامة المرحوم!

ما لك يا ذيبان؟ لم يستطع الحديث معي سوى بموجة الضحك! سمح لغنمه وكلبه بتظاهرتها المعهودة التي ترتجّ لها جوانب الوادي وسرنا متظاهرين معها دونَ منْعٍ أو إعاقات، ولكنْ دون أن تقف موجة ضحكه! تخيّلوا يوما من الضحك من جانب واحد وأنا -مع الأسف- مكتفٍ بسماعه ورؤياه، لم أستطع مشاركته بالضّحك، ولم أستطع ترك شاشة عرض مصير الزعيم.

انتهى نهارنا: جانب يضحك وآخر يتفرج على الضحك! وفي ساعة ما قبل الغروب استطعتُ استغلال تعبه رعيا وضحكا: يا ذيبان: ما هذا؟ ألمْ تطلبْ مني إعانتك للتفريق بين رعي الموسمِ وبين غيره مماّ يعيشه زمننا الذي لا تستطيع فهْمَه؟

زادَ من قهقهته أمامي حتى أعياني..

حاولتُ ثنْيَه أو إيقافه عن الضحكِ المنفرد بإقناعه بما قالهُ (مطوّعنا) عن قومٍ مِناَّ يصرّون على انتظار(المهدي المُنتظر)، علّ ضحكه يقفُ عند حدّ، فزادَ ضحكا منفردا حتّى كادَ أن يُغْمَى عليه، لكنّهُ الْتَفتَ إليَّ قائلا وسط ضحكه: مطوّعنا ذاتُه يبشرنا بمهديٍّ منتظر ثمّ انكبّ في ضحكه!!

قلتُ له: نعمْ . وانظرْ هنا في الشاشة: لقد قُتلَ الزعيمُ الدكتاتور، وهذه من بوادر المهدي. نظرَ إليها متفحّصا منظر قتله.. فسقط بين غنيماته مغشياّ من الضحك. – ما بكَ يا ذيبان؟ – أنت حسَنُ النّيّة، هل تعتقدُ أن هذا قتلٌ فعلا؟ -نعم قتلٌ واضح ولا غبارَ عليه!- أنت لا تعرفُ للحياة ولا للقتلِ معنى حقيقيّا! القتلُ غيرُ ما تراه.. القتلُ الحقيقيّ للدكتاتور: أنْ تكثرَ من الضحك.. وأن تكونَ أنت حرّا ولا داعيَ لقتلِ الأفراد، أنت منْ صنعتَهُم فلمَ تقتلهم؟ مشكلتي: هذا الحوار لمْ يُسْكِتْه عن ضحكه وقهقهته!

انتقلتُ به بذكائي وعبقريّة المعاصرة والتقنية إلى عالم آخر من المعازف تماشيا مع ضحكه: أغنيةٌ وطنية راقية كتبها نجمٌ شعريٌّ وغناّها نجمٌ بكلّ أنواع المعازف، علّه يصحو.. زادَ معها ضحكا مُتزيّناً بحَوْكَتِهِ (النصيف الأسفل من لباسه) ولويّتِهِ (عصابة من الزهور تحيط برأسه) مردّدا:

(-لبّيكَ يا داعٍ دَعَيْتَنا

وأبشرْ بنا في الضيقِ والسَّعَهْ

-لا غرْيَدَ الصارخْ ونَبَّنا

يا سِعْدِ مَنْ قوميْ عَصايِبِهْ).

عندها ارتقى ذكائي إلى أنْ أستطيع قطع موجةِ ضحكه وغنائه هذه ببعض الفتاوى التي حَرّمتْ هذا الغناء وذاك، وعرضها له من خلال تغريدات وكتابات ونداءات بعض العلماء(خصوصا أنهمْ أجازوا كلمة: تغريدات)، ومع هذا قرّرَتْ فتاواهم أنّ نقاء الدينَ الحقيقيّ هو: ألاّ نغنّيَ ولا نطربَ، وأنْ نعيشَ مطرقي الرؤوس، فالحياةُ لعبٌ ولهوٌ، وليستْ إلا متاعَ الغرور، فلعله يصحُو من ضِحْكته الأزليّة هذه، ويرتعبُ ويهتزّ أمام هذه الدنيا الزائفة! استخرجَ مزمارا من مزاميرِ آلِ داوودَ من صدَيْرِيّتِه (النّصيف الأعلى من لباسه)، أخذه من كعْبِ زرْعة الذّرَة وثَقَبَهُ وواصلَ ضحكه في وجهي على أنغامِه! لمْ يكنْ أمامي سوى الإصرار على الصمود أمامَ ضحكه حتى وصلنا -مع غنمه وكلبه- إلى مبيتِهِ الذي لا تستطيع البلديّةُ حتى الوقوف أمامه.. لقدْ بَلَغ (ذيبان) من الحرّيّة درجةً تصلُ إلى أنّ موطنه هو: مكانٌ تعرّفُه البلديّةُ الحديثة بأنه مبنًى فوضويّ غير نظاميّ ولا معتمد، والأوامرُ تنصّ على عدمِ منحه عليه حجةَ استحكام لأنه يُعتبرُ منْ شَعبٍ خارجَ النطاق العمرانيّ -رغم وجوده على أرضه هذه منذ عشرات الآلاف من السنين ورغمَ حداثة هويّتي وبلديّتي-! وحينَ قالوا له هذا، بدأتْ رحلةُ (ذيبان) مع ضِحكته الأزلية هذه التي لا تنتهي..

فشِلْتُ طيلةَ نهاري في إيقافِ هذه الضِّحْكة المتصلة (التّعليقة)، في محاولةٍ منّيْ لتحديثِ الرّجل وإقناعه بمقتل الزعيم والعالم الجديد، وبعدَ وصولنا داره المتواضعة غير المُعْتمَدة، كان على موعدٍ تلقائيّ مع صحبه في سَمْرةٍ (تهاميّة) كان تاريخها سابقا لتاريخ بلديّتنا بآلاف السنين ، جمَعَتْ -مع مزماره- كلّ المعازف المشبوهة، ليقف (ذِيبانُ) أمامي تختلطُ ضِحْكتُه الأزليةُ الساخرةُ بي وببلديّتي وحداثتي وأجهزتي وبألحانه التّهاميّة مرددا مع قومه في وجهي:

(أيْنَ ابُوناَ آآآدَمْ وشدادِ بْرِعادِ

وينَ ذِيْ القرنينَ ذا مَلْك البلادِ

وين هارونِ الرشِيْدْ

وين بنْ داوود ذا ملكُوْ تَمانِيْ)

>

شاهد أيضاً

الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة

صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل :  انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com