لم تعد جدة قادرة على الصمود، طُعِنَت مع «سبق الإصرار والترصد» قبل سنين في جسدها الغض الطري، مزقوها وباعوا جسدها بثمن بخس، ثم نسوها ورفعوا أياديهم، جرح جدة لم يندمل على رغم جرس الإنذار، صدقوني لا أظنه سيندمل قريباً، وسنحتفل ربما بأربعاء أسود ثالث جديد، متأسف على أني قلت جرح جدة، لم يعد جرحاً على الإطلاق، إنه كارثة محلية كبرى، نزفت قبل أمس نزيفاً يتجاوز في حجمه حجم الماء الذي دهمها وسيدهمها، ولن يعرف غيرها طالما لم يتمكن أحد من أن يقف له، ويبذل السبب لتخفيف النتيجة.
مساء لا يشبهه مساء، وبكاء لا يشابهه بكاء، هاتوا لي عاقلاً واحداً لا يصنف ما حدث على أنه غرق جماعي يشبه الجحيم، ولأجساد بريئة ذنبها أنها اكتست رداء الفقر والضعف والعجز، وصدقت فاسداً قال لها ذات يوم مضى: «هنا تبنى أحلامكم، وستنمو طموحاتكم، ويأتيكم رزقكم، وتتضاعف أرصدتكم، ويسهل عيشكم»، ولم يعلموا أن أحلامهم سيقتلها المطر، وطموحاتهم ستتوقف عند أول محاولة للهروب من الموت، ورزقهم لم ينحصر في مربعات سكنية، في ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لم يخبرهم أحد أن أرصدتهم ستتوزع لإقامة خيام العزاء، وشراء أدوية العلاج وتأمين الغذاء، والبحث عن مساكن تؤوي الاحياء منهم، لم يعلموا ولو للحظة أن عيشهم محفوف بمخاطر الخوف والفزع والجزع والدموع والحزن والذكريات الأليمة ومناظر الغرق والموت البطيء.
لا تلوموا عاشقاً بكى، ولا مواطناً ذرف من الدموع ما يليق بمشاهد لا يملك أحد أن يخفيها أو يراوغ من دون مشاهدتها وتذوق مرارة الألم على ما بداخلها من تفاصيل حارقة، بعضها يتحمل مشاهدته، والبعض لم نتحمل أن نشاهدها بالكامل، ومشاهد لا نملك القوة على أن نمنحها نظرة خاطفة، وكل ذلك بمدينة ساحرة نرمي عليها همومنا وأوجاعنا، ونلجأ لها إن ضاقت صدورنا، لتملأنا تسامحاً وتعايشاً وقبولاً، لكنها شوهت أعضاؤها ووعدت – من قبل وبعد – بسعادة زائفة، وعلاج عاجل للجروح النازفة إثر أربعاء أسود سابق، يبدو أن العلاج لن يبدأ مفعوله إلا إذا اتسعت مساحة الجسد المشوه، وفقدت أعضاؤه أكثر.
نصبت لجان لتقصي حقائق الكارثة في العام السابق، ولا نعلم إلى ما انتهت إليه، وخلصت له، على رغم أن التوقعات كان تذهب إلى الإطاحة برؤوس، والكشف عن رؤوس أخرى، توزعت في الكارثة الصغرى العام الفائت أوراق التُهَمْ، وتوزعت الأدوار، تحدثت كراسي عدة وادعت ملكية الحلول وقدرتها على مسح الحادثة برمتها من الذاكرة، والتهيؤ لأضعاف مضاعفة من قطرات المطر.
إنما هذه المرة كانت لغة التصريحات حزينة موجوعة ومفجوعة وخائفة، لغة منكسرة كأنها عاجزة عن أن تقول ولو حرفاً واحداً غير الجمل المنتظرة من تضاعف مجهودات الإنقاذ، والعمل الجماعي، والحاجة لتكاتف الجهات من أجل إنقاذ المحتجزين، وتخفيف حجم الدمار المادي والبدني، لغة اختلفت تماماً عن لغة العام الفائت، كان الجميع يصيح من أن الفساد سيذهب بنا الى الجحيم، سيضعنا غير قادرين على مواجهة أي كارثة، فلماذا سكتنا عنه ونحن في مواجهة كارثة كانت شبه متوقعة ومنتظرة؟
عامان متتاليان كشفا عن مأساة جدة الحقيقية، وكشفا أكثر عن ضعفنا في معالجة أي وجع يحل بنا، عامان بالضبط ونحن ننتظر ما ستسفر عنه سحب متلاحقة عيبها الوحيد أنها هطلت على جدة لساعات متواصلة، كشفتنا وكشفت أننا قوم «نقول أكثر مما نفعل»، «نتحدث ونتحدث ونتردد أن نعمل»، «نعد ونبشر ونهمل»، «نتألم ونبكي وننسى».
جدة لا تنتظر بعد أربعائها الأسود الكبير أي لجان، ولا تحتمل تنظيراً ولا وعوداً، تحتاج عملاً مباشراً محسوباً بالثانية والدقيقة، ومحاسباً عليه إن تأخر، لا تريد من الآخرين أن يمارسوا متعة الضحك علينا، وعجزنا التام عن إصلاح جهاتنا ومجابهة حوادثنا، انسوا ما حدث، سموه «مطراً، غرقاً، سيلاً، طوفاناً» ما شئتم، لكن ضعوا النقاط على الحروف، نريد قائمة بأرقام الفساد وأجساده، ثم جدولاً زمنياً ببداية ونهاية، على ألا يبلغ 305 أيام، تحسباً لأربعاء جديد، غيّروا الكراسي والمقاعد، استبدلوها بأجساد متحمسة، هاتوا لنا قائمة الأربعاء الأسود الفائت وسننسى قليلاً فالمسبحة متصلة ولا تطلبوا من أهل جدة في القريب أن يؤدوا صلاة الاستسقاء، لأنها ستبكيهم مجدداً.>