وللصوم في الذاكرة الحزينة لمنتظريه الحقيقيين قصة حب ومنظومة عشق، وله بالوزن ذاته رائحة تعرفها الأنفس، لتراجع رصيدها الحقيقي من الحنين والحياة. نتبادل التهنئة ونوزع التبريكات في المساءات الأولى للشهر «الضيف»، ونحسب أنفسنا في عداد الحاضرين بشكل مغاير على مختلف الأصعدة، نرتبط ونرابط مع الضيف بذكريات لا يقدمها ولن يؤخرها مجرد تهنئة، إن كانت أحرف النصوص تنتقل من طريق القص واللصق لا عبر الخيوط الفارقة من الأحاسيس وخلجات الوجدان. كلنا يهنئ بشهر الفضل، ويتبادل رسائل التهنئة المكررة بوصوله، فلم يعد هناك وقت لأن نختار من الأصوات المحيطة ما يستحق أن نؤنس به وحشة القلوب، وندعم حوائط الجسد التي سلبت منها التقنية روحها وحياتها ومنحتها السرعة المغلفة الباردة.
كتبت المدينة الفصل الأخير في حياة رمضان القرية المختلف، ولمن كُتب له الحظ والعمر فليستعيد الرائحة ذاتها من الوجوه والأمكنة والأحداث، وإن كلفه ذلك التخلي عن أضواء المدينة وضجيجها وحسها الذي اعتدناه وبتنا نعد كل شيء مغاير عنها ضرباً من التعب والجنون، من كُتب له فليستمع إلى كل الأصوات الفاتنة الصامدة التي تعرف وتستمتع بقيمة الدقيقة على امتداد خريطة الجوع والصبر والأجر، وكأن الكل من حضور هذا المشهد يستحضر الأديب مصطفى الرافعي بسطره الأنيق لحظة بلحظة حين يقول: «أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن 30 يوماً في كل عام، ليحل محله تاريخ النفس».
للقرية في الشهر الحبيب نفَسها المغاير، وصوتها الذي لا يعرفه ويدرك قيمته وقامته إلا من أدمن لذة الانتظار لحظة الغروب، أو ودع السحر بصوت مشابه يشوبه حزن أنيق لإغلاق صفحة يوم، والإشارة ببدء يوم جديد، في القرية يختار الجميع ساعات النهار للوقوف أمام المعجزة الإصلاحية بصمود يتخلله تحدٍ لكل لحظات المشقة والتعب، مختوماً بمخلوط فاخر من ابتسامات لا تفارق الشفاه، لتثبت أن الجباه لا تقتلها التجاعيد إذا عالجتها الشفاه بابتسامة وقورة دائمة، واختارت الصباح القاعدة في الابتسامة والمساء قاعدة رديفة لا العكس.
في المساء تأخذ أفراد القرية أحاديث السمر إلى تفاصيل اليوم الطويل ولقمة الإفطار البسيطة، تلك التي سدت جوعاً حقيقياً تثبته قلة ساعات نوم النهار والتصاق الشموس بالأدمغة، وحبات العرق الساقطة على الأرض لتروي الظمأ، ذلك الذي تعرفه الأرض حين يكف العرق عن السقوط. بين المدينة والقرية رقم ينتمي للكيلومتر في حسابات الطول والمسافة، ولكنه رقم مجهول بلا علامة قياس محددة في حسابات الحنين والحب والصدق والطيبة، ولأني أخذت من رائحة القرية قسطاً بسيطاً أتزود به بقية الشهر وأهش به على ألمي، فسأترك لكم مساحة مفتوحة للمقارنة والمقاربة الشخصية بين رمضان المدينة وشقيقه القديم رمضان القرية، وكل شهر وأنتم إلى الرب أقرب.
>