كنت طفلا قرويا، وصغيرا لم أدخل يومها المدرسة، عندما كنا أيامها نقضي (عصاري) العشر وليالي عيد الله الأكبر على قصص وحكايات آخر اثنين من الأحياء يومها، الذين ذهبوا لهذا الركن سيرا على أقدام حجرية من القرية إلى بيت الله المعظم. رحمهم الله وأسكنهم واسع جنانه.
كان والدنا علي بن حسين بن شبلي يروي لنا حكاية أيام التشريق، وللدهشة التي قد لا يصدقها أحد كان يقول لنا: إن جميع الحجاج في ذلك العام يتعارفون تماما وبالاسم الثنائي، مثلما كان يروي لنا أيضا بعض الطرائف مع قلة الحجاج (الأعاجم) وكأن حاجز اللغة في ذلك الزمن الجميل كان رأس مشاكل تنظيم الحج.
لا زلت أتذكر حديث (أبوقداح)، رحمه الله، وهو يقول لنا إنهم يتناوبون المتعة إلى تقبيل الحجر الأسود. كأنه يقول لنا إننا نتناوب تقبيله حتى لا يشعر هذا الحجر الأسود المبارك بالغربة. ولن أنسى ما حييت لذة حديث والدنا وهو يروي لحظات الوداع بين (المجموعة)، كلما قرر حاج أن يغادر عائدا إلى بلده وأهله.
أما والدنا الآخر (معيض بن مسفر) فكان يأخذنا إلى قصص المسافة الطويلة في قرى (ساق الغراب) في الطريق إلى مكة. كأنني سمعت من لسانه العذب الطاهر تلك القصص ألف مرة ومرة؛ كيف هجم على حزمة البرسيم الغض أمام ثور في بلاد شمران بعد يوم طويل من الجوع القاتل، وكيف هرب باللحم والعصيدة من بين أسرة غامدية كريمة كي يأكلها وحده على رأس الجبل. كان يروي لنا تلك الحكاية الأسطورية يوم عاد (سرارة) إلى القرية، وكيف أكل (ربع حسيل) مكتملا لا زال (نيا) في المعلاق يوم ذبحوه فرحة بعودته. لا زلت أتذكر من حديث أبوصالح قوله إنه عاد للقرية في (يوم عاشوراء)، أي بعد شهر من الأضحى، وكل هذه أساطير قد لا يصدقها جيل الحجز المؤكد على الطائرة عند الساعة الرابعة بعيد زوال اليوم الثالث لمن (استعجل)، وأنا اليوم لا أبكي ولا أنعى حكايات رحلة الحج التاريخية، بقدر ما أبكي وأنعى هذه القرى التي لم يعد بها أي شيء من الذاكرة. أجيال جديدة لا تعرف ليالي الصالحين (أبوقداح وأبوصالح)، مثلما لا تعرف أيضا أن هذين (الراحلين) الكبيرين من أساطير قرية جبلية، كانا يختلفان، أمامي وأنا طفل صغير، على مواعيد الأذان، وكل منهما، رحمهما الله، يتهم الآخر بجهله بمواعيد الشفق والغسق. لم يختلفا مثلنا اليوم على شعب أو (مسيلة) أو طلحة.
والخلاصة، وأستغفر الله، نحن اليوم نعيش أعيادا مصطنعة غابت فيها رواية أبي قداح وروائية أبي صالح. كنا في كامل الحظ لأننا -على الأقل- تربينا على هذه الذكريات وتلك الذاكرة. أدعو لهما بالثواب والرحمة والمغفرة.
علي الموسى
>