يبعث لي صاحبي بصورة قبر وقد كتب على الحجر التعريفي في النصب من فوق ذات القبر ما بين القوسين التاليين «الصحوة 1980 – 2017». ما بين القوسين، ولمزيد من الإيضاح هما الاسم وتاريخ الولادة والوفاة. قلت فوراً: هذا لا يصح ومثل هذه الممارسات دلالات مرض فكري. الأمم الحية الصحية تعيش على الجانب الموجب من نهر حروب الأفكار. نحن على الضفة الأخرى نقتات على ابتداع واختراع أفكار للحروب. المفكر الحقيقي والمدرسة الحقيقية لا يفرحان بلحظة الانتصار عبر الشماتة وعبر تقزيم وسحق المفكر والمدرسة المقابلة.
المفكر الحقيقي والمدرسة الأصيلة هما من يعيان ويدركان أن الموجب الصحي من حروب الأفكار يحتاج إلى ميدان وإلى مبارزة وإلى منافس قوي. الأفكار السليمة الحرة ستموت حتماً إن لم تجد في المقابل فريقاً ومدرسة للمباراة وللمنازلة. ومن دون هذه البيئة وذات الشروط سنبقى في دائرة التغذية المخيفة لأفكار للحروب، وهذا ما نحن عليه منذ أربعين سنة.
سأكتبها بلغة واضحة مباشرة ودون أي مواربة: كان التنويري بكل الأسماء والمسميات المرادفة يتهم الديني بأنه خطاب إقصائي استبعادي واستعبادي، لا يقبل بوجود الآخر، ولا يؤمن بالحوار، ولا بضرورة الحياة لفكرتين متقابلتين من أجل صحة المجتمع. دعونا نقبل ببواكير الحقيقة الوليدة من أن هذا المجتمع وبنسبة الأغلبية قد انحاز في نهاية حروب الأفكار إلى دائرة النور. والسؤال الأخطر: هل سيقع التنويري في ذات الخطأ التاريخي ثم يتخلى عن ثوبه الواسع الذي يكره الإقصاء والاستبعاد والاستعباد؟
والجواب أن أمام التنويري فرصة مشرعة للمثالية في تطبيق كل ما كان يدعو إليه من التقابلية والثنائية والتعددية. التنويري كان يتهم الديني بأنه مجرد مصنع إنتاج لأفكار للحروب، بينما يتباهى ويفتخر بأنه المصنع المقابل لحروب الأفكار، وهناك فرق شاسع جداً لمجرد إبدال مواضع الكلمتين في ذات السياق.
وكل ما أشاهده، وللأسف الشديد، ليس إلا أن التنويري مع يوفوريا الانتصار يلبس ذات منهج الصحوي أيام ذروته وجبروته. ينسى التنويري اليوم مثلما نسي الصحوي من قبل أن المجتمع الواسع العريض هو صانع الانتصار الحقيقي في نهاية الأمر. المجتمع هو من اختار وهو من قرر الانحياز، وهو من انتصر لشكل حياته المستقبلي. المجتمع هو من اكتشف أنه سيبقى متدينا متحفظاً محافظاً حتى وهو ينحاز للنور وللتنوير، رغم كل تحذيرات وتخويفات الصحوي. هو من اكتشف أن الصحوي قد حول الدين إلى وظيفة ودخل وبزنس، وأخشى أن يكتشف غداً أن التنويري ليس إلا الموظف الجديد البديل على ذات الدخل وذات البزنس.
د. علي سعد الموسى>