من زعم السرابَ شراباً، وروّج الخطأَ صواباً، فلا خير فيه، ولا من تستّر عليه، وإن نال من الشهادات أعلاها، ومن الشهرة أسماها، لسنا أفلاطونيون ولا شيطانيون، نحن بين بين، كغيرنا من الناس بل خيراً منهم بكثير، عندنا من العدل أضعاف ما عندهم، ومن الفضل أكثر مما لديهم، ومن الخير ما يوازيهم ويفوق عليهم، وعندنا قبلة المسلمين، وسيد المرسلين، فماذا لديهم حتى نهرب إليهم؟!! فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغَرور، فليس الغرب مكاناً آمنا لكم في الدارين وإن أبدى لكم ذلك، أو ظننتموه كذلك، وسوق النِّخاسة الّذي بعتم أنفسكم فيه لصالح نظام الحمدين لن يدوم، فلا تلوموه يوم غدٍ ولكن لوموا أنفسكم، ما هو بمصرِخكم وما أنتم بمصرخيه، فمن سعدٍ إلى سعيدٍ، ومن المسعري إلى الدوسري وآخرين من شكلهم أزواج وفي حبلٍ من مسدٍ، تبّت أيديكم كما تبّت يدا أبي لهب وتب، أيكال لبلد الحرمين من أفواهكم؟!! ويُتطاول عليه من أقلامكم؟!! فأين الغيرة إن لم يكن دينٌ؟!! وأين العبرة بما آل إليه مآل المارقين، فهل تعون ما أنتم فاعلون؟! أم تفعلون وأنتم لا تَعُون؟!! أيطربكم دق الكنائس أقواسَها؟ أم بنات بني الأصفر ولباسَها؟ ألا تحنّون كما تحنُّ الإبلُ لأعطانها، والطير لأوكارها؟ أم تبدلّت قلبوكم فتبلّدت!! ورانَ عليها الرّانُ فتلبّدت؟!! فأين المفرّ؟ وإلى الله المستقر.
أما لكم عبرة بمصارعِ السابقين واللاّحقين، هلكوا ولا بيْعة في أعناقهم، ولا يملكون حُجةً لنفاقهم؟!! فمثلهم كمثل ملك الغساسنة جبلة ابن الأيهم، الّذي أعلن إسلامه وقدم زمن الفاروق رضي الله عنه لأداء فريضة الحج، أعلن جبلةُ إسلامه وبقي يحمل في نفسه عنجهية ملوك الجاهلية، وأثناء طوافه بالبيتِ دعس أعرابي من فزارة على إزاره، فغضب جبلة من الفزاري وقال له: أتدوس على إزاري وأنا الملك وأنت سوقيٌ!! ثم لطمه لطمة قوية هشمت أنفه، فرفع الفزاري شكواه لأمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه، فخيره عمر بين إرضاء الفزاري أو القصاص، فغضب جبلة وقال: أنا صاحب تاج وعرش وهو أعرابيٌ سوقيٌ أتساوي بيننا!! فقال عمر رضي الله عنه: دعك من هذا، فقد ساوى الإسلام بينكما في الحقوق والحدود فإما أن ترضيه أو القصاص، فطلب جبلة المهلة للغد فأمهله عمر، وفي جنح الظلام تسلل مع أفراد قبيلته وولى هارباً تجاه نصارى الروم ” الغرب اليوم” وارتَدَّ عن الإسلام، وفي فتح بلاد الشام ولّى هرقل هارباً وهرب معه جبلة والندم يعتصر قلبه، ويحرق فؤاده، ولكن لات ساعة مندم، وينسب إليه الشعر الذي منه:
فياليت أمي لم تلدني وليتني رجعت إلى القول الّذي قال لي عمر
وياليتني أرعى المخاض بقفرةٍ وكنت أسيراً في ربيعة أو مضــر
وياليت لي بالشام أدنى معيشة أُجالس قومي فاقد السمع والبصــر
فيا سعد وسعيد، ويا محمد وغانم، ويا هذا وذاك، من استنعج أكلته الذّئاب؟!! فكثيرون هم الحاصلون على النصيحة، لكن القليل من يستفيد منها، لن تضروا إلاّ أنفسكم، ولن تبتروا إلاّ أكفّكم، ولن تجدعوا إلاّ أنوفكم، فبلاد الحرمين يحميها من اختارها قبلة للمسلمين، وقبراً لسيد الأولين والآخرين، يحميها بقوته ونعمته، ثم بعزيمة الرجال الّذين نذروا أنفسهم خدمةً لدينه، ثمّ مليكه وأمنه، فمنهم من قضى ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ففراش نارٍ، وذباب طمعٍ، فلليدين وللفم، وفاهاً لفيكم، فطعنة العدوِّ تُدمي الجسد، وطعنة الصديق تُدمي القلب، وكما قيل: أعط أخاك تمرة، فإن أبى فجمرة.
بقلم /أ.د: عبد العزيز بن عمر القنصل
قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة – جامعة الملك خالد ـ أبها>