منذ أن كنت صغيرًا وأنا لا أحب الشتاء، ربما لأنه فصل كان يتوافق مع أيام الدراسة، والقلق، والخوف!
كنت أقضي نهاري متصبرًا حتى إذا غابت شمس الأصيل، وهجم الليل بسكونه الراعب، ورياحه الباردة، خيم الخوف في داخلي، وتنازعني القلق والهمُّ من كل جانب!
كنتُ أذهب إلى فراشي في ساعة متقدمة من الليل، كان ليلنا ينتهي بانتهاء العَشاء، ونشرة الأخبار المبدوءة عند التاسعة.
كنا نُشاهد الأخبار جميعًا، عِشنا من خلالها لحظات التنمية الكبيرة التي تحقَّقت للبلاد في ذلك العهد، نَجلس صامتين احترامًا لأبينا، وبأمر صارم مُسبق من والدتنا؛ من أجل أن يسمع أبونا الأخبار، واليوم أنا في معارك مع صغاري من أجل أن أسمع خبرًا، أو أرى مشهدًا!
كان الذهاب إلى الفراش في كل ليلة مدرسية بارِدة بدايةً لمُعاناة جديدة.
كنت أقضي معظم الليالي مستيقظًا في فراشي، أنظر إلى أخي الذي يكبرني بعام يغطُّ في نوم عميق، وأنا سهران يَعصرني ألم السؤال: كيف استطاع أن ينام؟!
لم أكن أعرف سبب عدم مقدرتي على النوم، وكان ليل الشتاء بطوله، وثِقله يمضي بطيئًا، وبطيئًا جدًّا، حتى إذا ما قارب الفجر على الظهور استسلم الجسم الضعيف المنهك للنوم، نوم قليل يبدِّده ذلك الصوت العذب الجميل، صوت أمي، وهي تقول: ماجد، هيا، قم، مدرسة!!
كنت أقفز هربًا من ذلك الليل المزعج، وأصحو فرحًا لرؤية أمي، وأنطلق شوقًا للقاء أصحاب الطفولة في تلك المدرسة المتهالكة، نحضر في حجرة الصف التي كانت غرفة صغيرة لا يتجاوز عددنا فيها – إن كثرْنا – خمسة عشر تلميذًا، أو كانت من الصفيح فوق سطح المدرسة.
كان الوقت يمضي معهم جميلاً في الصف، وفي ملعب المدرسة، كان معلم التربية البدنية لاعبًا في نادي المدينة، كان يشدُّنا – نحن الذين نحب الكرة – بلعبه ومهاراته.
كنتُ مشرفًا على الإذاعة المدرسية، وأنا من يؤدي تحية العلم قبل أن يظهر النشيد الوطني، أؤديها عبر المكبِّر، والتلاميذ يردِّدون خلفي.
وفي يوم من أيام العام الخامس بعد الأربعمائة والألف هجرية دخل علينا معلم اللغة العربية، وكان من جنسية عربية، وقال: أخرجوا كراساتكم، وانقلوا ما سأكتبه في السبورة، ثم كتب: سارعي للمجد والعلياء.. كتب النشيد الوطني، وكتب تحته كلمات إبراهيم خفاجي، ألحان سراج عمر، هكذا نقلناها، وهكذا حفظناها، أنا اليوم لا أستطيع أن أقول لتلاميذي كلمة “ألحان”!
كان اليوم الدراسي يمر سريعًا سعيدًا، أنسى معه مرارة ذلك الليل البهيم، وما إن يعلن صوت الجرس انتهاء اليوم الدراسي حتى ننطلق خارج المدرسة؛ لنجد ذلك الشيخ المسنَّ يقف بعربته يبيع شيئًا من البطاطا المقلية يقدِّمها في قرطاس صغير، كانت العربة عربة تُستخدم في أعمال البناء، لكنها كانت جديدة نظيفة.
أعود إلى البيت مشيًا مع أخي، وبعض أطفال الحارة، وما إن نصل إلى المنزل حتى تلقانا فيه أمُّنا بترحاب بالغ، وسؤال دائم عن أحوال الدراسة، وتشجيع، ومؤازرة تبعث فينا الأمل، وترسم لنا معالم النجاح، وهو مما غاب عن كثير من الأمهات اليوم!
يمضي نهار الشتاء سريعًا، وما هي إلا ساعات قليلة حتى يرفع المؤذن صوت أذان المغرب؛ لتبدأ رحلة جديدة من المعاناة يرسمها الليل بألوانه القاتمة، ويقضيها الطفل بأحلامه الطامحة، ويبددها الصباح حين يتنفس، وصوت الأم حين يهمس: ماجد، هيا، قم، مدرسة!!
ماجد الوبيران
>
احسنت الله يسقي ايام الطيبين
ايام جميلة استرجعت فيها شريط ذكرياتي لتلك الايام الخوالي ،،، مقالك يا ابا محمد قلب المواجع ،، رحم الله والدتك واسكنها فسيح جناته ..
تقبل مروري …
وفقك الله ياابامحمد ايام الطفوله لاتنسى شكرا لك يا ابا محمد
مقال رائع جدا رجعنا الى ايام الزمن الجميل.
قلبت المواجع يا ابا محمد .
الله على أيام زمان كل شيء جميل
مقال رائع أبا محمد
وتبقى الذكريات تنثر بذكر الماضيات .فهناك من تبدأ معاناته في رحلة الصباح المدرسية بعربة نقل هي مخصصة لنقل ضخام الأمور والبضائع .قد كساها صاحبها بغلالة من القماش الذي تنفث رائحته فينا عبقا لا ننساه .وتلسعنا نسمات الصباح البارد حتى أنها قد خطت بمعالمنا خرائط كنتورية .وما أن نصل إلى المنزل الذي صار مدرسة إلا ونقوم بتجميع أجزاءنا التي فرقتها عوائق الطريق ووعورة السبيل .لا استغرب أن أجد يدي ملتف بها صديقي وحقيبتي صارت رداء لأخي وأنا متشح بكتاب رفيقي…
لا أطيل فالقصة طويلة أبدية…
سامحك الله …. فقد بعثترت ذكرياتي البارده بسخونة مقالك وذكريات الطفوله فقد كنت أقفز بين الكلمات والسطور وانا أعيش ذلك المشهد الساخن البارد نعم اعترف بانك كاتب فريد من نوعه فقد أجبرتني على الإبحار ..ثم الإبحار .. ثم الابحار …. اعذرني فبين طيات المقال ما يجعل ادمعي تتساقط على الذكريات الجميله رغم البرد القارس الذي يلف سخونة المقااااال
متميز دائما ابو محمد في الطرح
عشنا معاك كل تفاصيل هذه القصه الرائعه
ايام نتمنى ان تعود
فعلا الشتاء عادة يجلب الهدوء الذي يصل لحد الخوف . .
هههههه
أعدتني للماضي
وما أجمله من ماضي
وكأني أرى شريط الطفولة أمام ناظري
أشكرك على هذا المقال الدافئ في هذه الليالي الباردة
جميل ما خطته اناملك فلك شكري
يتميز الكاتب بمقدرته على تطويع الكلمة وكأنها ريشة ترسم صوراً بديعة. فقد استمتعت بقراءته عدة مرات وكأني اشم عبق الجنوب في الشتاء، كنت اقف بين الجمل وكأني اقف امام لوحة فنية اتأملها
المقال يحكي لنا رواية جميلة فيها الماضي الجميل وكيف كانت العلاقة بين افراد الاسرة فيها اهم حدث طغى في تلك الفترة. صور جميلة سردها الكاتب من المدرسة، ومن البيت.
كنت في كل جملة اقرأها اعود بذاكرتي لطفولتي واقارن بينهما، وهذه اضافت متعة اخرى.
اتمنى على الكاتب ان يجود علينا بمقالت مماثلة ويمتعنا بكتاباته
ماشاء الله تبارك الله من اول ما قرأت القصة لم أستطيع ان أفارق السطور من شرقي لإكمال ماتبقى
مقال في قمة الروعة وخلال سياق المقال احس عبرة الماضي الجميل
والله الماضي الجميل الذي لا يرجع
تشويقك للقصة رهيب
وفقك الله أبا محمد
مقال جميل استاذي الكريم عانيت واستمتعت بماضي الطفولة الجميل وأنا أتوقع أنك تحن الى تلك الايام الجميلة ….
تقبل مروري …..
محبك/ عبدالمجيد معوض