دوائر خلافاتنا السعودية الموسمية

e87ff9287bf7459b97606599ef8a744bيضعنا الاختلاف دوماً على المحك، خلافاتنا تتحول بفعل المتعصبين والمتشددين والخائفين على الشعبية والجماهيرية لمباريات ساخنة لا تقبل أنصاف الحلول، وليت السخونة تتوقف عند حدة الرأي والطرح، لكنها تتجاوز فتقدم لنا من الألفاظ السوقية والشوارعية ما يجعلنا نثق تماماً بأن الأدوات التي اشتغل عليها المتشنجون هي أدوات ذات رأي أحادي وعمل جماعي خادم لمصالح معروفة لا تخفى على واع، ولم أحضر هنا للكتابة لأجلها.

تخيل أن تختلف مع أحدهم وهو يصف نفسه كما يحب لا كما نحب، ويرى شخصه وصياً على العقول، ملماً بما يحيط بنا وما يخطط له الآخرون، ويستخدم عبارات دالة على ثقل المحتوى وعمق التجربة وقدرته البارعة في الحوار واستيعاب أدب الاختلاف، تخيّل إبداعه حين يصف مخالفيه فيقول عنهم: «كاذبون، ينفذون أجندات أخرى، ذوو فكر أجوف، يعانون من عهر فكري، ليبراليون، أعداء للدين والوطن».

عَجْزنا عن ضبط الحضور الشخصي أثناء الخلاف أو المناظرة دليل فقر في المحتوى، ومؤشر إلى أن الألم استوجب قدراً هائلاً من الصراخ، فضلاً على المفصل الأدق وهو أن التأثير الكبير لما وراء أوراق الخلاف يتطلب التضحية بأي شيء وقول أي شيء، إذا ما سلمنا بأن هناك قطيعاً بشرياً يمكنه أن يسير مغمض العينين خلف الآراء الأحادية الطرح، لكون عقله في إجازة حتى إشعار آخر، ولأنه تعلّم ألّا يسأل ولا يناقش، وأن يستمع بصمت وينصت إلى أساليب التلقين والحشو.

يتفنن أوصياء العقول في إزاحة الجميع لأجل الانتصار في كل المواقف والخلافات، ومن لوازم الإزاحة تصفية الباحثين والمتسائلين والشاكين، وليت هذه التصفية تعمد إلى تعبئة فراغ الإجابة والوقوف على دائرة الخلاف، لا الخروج الدائم عليها وإحضار المخاوف والشكوك والتهديدات ورمي التهم الطازجة وإقناع البسطاء والعامة بأن كل من يأتي بسطر لا يوافق المعتاد ويخالف السائد فهو منحل خائن راغب في إسقاط المبادئ وحل المجتمع وجره إلى الهاوية.

ما يعجبني في دوائر الاختلاف الاجتماعية المحلية إيماننا بالصوت الأعلى أكثر من منطقية الطرح، واندفاعنا مع ذي الإطلالة الأكثر والقدرة البارعة في اللعب بالألفاظ وتجييش المشاعر والعواطف انطلاقاً من مشكلتنا الكبرى وهي فقر السعودي عاطفياً، فحين يأتي من هو بارع في اللعب على إشباع هذا الفقر ولو بالكلام فثمة انقياد عجيب له، وتضحية مذهلة تصل إلى الدفاع عنه مهما قال ومهما فعل، وتذهب بعد ذلك إلى ما تظنه جهاداً للدفاع عنه، حتى وإن كان ما يأتي به من التناقضات كاف لتشنج عضلات التفكير تماماً.

نختلف ونصنف ونقذف ونتهم الآخرين لأجل قضايا هي من الأساس قضايا خلاف معلوم، وقضايا أراها في هامش الطرح، لتقاطع العادات مع الدين فيها وتحولها بفعل التشنج والإقصاء وسحق الرأي الآخر من قضايا لتحديد العلاقة بالرب إلى قضايا لتحديد علاقة الإنسان بمجتمعه، وليت صراعنا الديني والفكري والاجتماعي يتجه نحو قص أجنحة الإرهاب والتطرف والتحريض والانتماء الحزبي والفساد و«الشبوك» والظلم بدلاً من إجبار العقول على مصارعة أحكام شرعية منغلقة لقضايا هي محل خلافات فقهية معلومة، وسيكون الجدل فيها نابضاً ما دامت العقول الصدئة تقسم أن الاختلاف «هراء» لا «ثراء».

 

علي القاسمي

>

شاهد أيضاً

إن خانتك قواك ما خانك ربك ولا خانك ظناك

بقلم: ابراهيم العسكري تعرضت قبل فترة لعارض صحي اعياني من الحركة وارقني من النوم واثقل …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com