صحيفة عسير _ شذى الشهري:
فجعت الأمة مع ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة 2/4/1436 هـ ،، 23/1/2015 م بخبر وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وأمام هذا الحادث الجلل فقد تزاحم في الخاطر عدد من المشاعر والانطباعات ومنها:
أولاً: رحيل مؤسف ومحزن:
لا ريب أن وفاة والد الجميع خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حدثٌ يحزن النفوس ويعتصر القلوب ويُدمع العيون، بالنظر لكونه قائداً عزيزاً، وإماماً فذَّاً أجرى الله على يديه من النفع للإسلام والمسلمين ما يسجله التاريخ بمداد الفخر الجليل والثناء العظيم، فكتب الله له من المحبة والاحترام ما تختزنه القلوب وتحفل به النفوس، فانطلقت النفوس لتعبر عن هذا الحب على سجيتها.
ومع كل ذلك لا نملك إلا أن نقول كما أرشدنا الله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾ [البقرة: 155 – 156].
ثانياً: توقف العمر واستمر العمل:
إن مما يخفف الحزن ويصبر النفس أن فقيدنا قد ترك من بعده أعمالاً صالحة مستمرةً غير منقطعه، داخلة بإذن الله في حديث رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: ” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ” رواه مسلم.
فالصدقات وأعمال البر التي تبنَّاها الملك عبدالله لا تغيب عنها الشمس، من أقصا الدنيا إلى أقصاها، حيث إطعام الطعام، وتقديم الكساء، ومنح الدواء، وتيسير الإيواء، وغيرها من الأيادي البيضاء لكل محتاج وصريخ.
وما لسان حاله -رحمه الله- إلا كما قال الإمام الشافعيَّ:
يا لـهفَ قلبي على مالٍ أجود به على المُقِلِّـين من أهـل المُروءات
إنَّ اعتذاري إلى من جاء يسألني ما ليس عندي لَمِن إحدى المُصيبات
فصنع المعروف من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله -عز وجل- ؛ ودليل ذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً: « وإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كرباً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً »، وحديث: « من أفضل العمل: إدخال السرور على المؤمن: يقضي عنه ديناً، يقضي له حاجة، ينفس له كربة ». ويقول -صلي الله عليه وسلم-: « أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ».
قال بعض أهل العلم: « وإذا كان الله سبحانه قد غفر لمن سقى كلباً على شدة ظمئه فكيف بمن سقى العطاش، وأشبع الجياع، وكسا العراة من المسلمين؟ ».
وفي أبواب الأعمال الجاري ثوابها نلاحظ أن لمليكنا الفقيد القدح المعلَّى في أعمال جاء النص عليها في أحاديث نبوية، فكان سابقاً إليها، بل وكان متفرداً في كثيرٍ منها، لا ينافسه أحد، كما في عمارة الحرمين والاهتمامات بأبيار زمزم .
وفي هذا يقول النبي -صلي الله عليه وسلم-: « إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته – فذكر أعمالاً ومن ذلك -: ومصحفاً ورَّثَه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه بعد موته » رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني، وقوله -صلي الله عليه وسلم-: « سبعة يجري للعبد أجرهن بعد موته وهو في قبره -وذكر منها-: أو كرى نهراً، أوحفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً » رواه البزار وحسنه الألباني.
وما أحسن ما قال بعض السلف: أفضل الأعمال: سلامة الصدور، وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة، وبهذه الخصال بلغ من بلغ، لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة.
وأما العلم: فقد كان فقيد الأمة -رحمه الله- رائده في الوطن الغالي، وفي غيره من بقاع الدنيا، فهو مطور التعليم العام والعالي في أرجاء المملكة، وهو ممن تبنى المبادرة الحكيمة في إقرار تعليم البنات في إطار من الحشمة ووفق أسس شرعية ثابتة، تميزت بها المملكة وباتت موضع الثناء.
وفي أرجاء الدنيا ثمة صروح علمية من أقصى أستراليا والصين إلى أقصى القارة الأمريكية، تبنى الفقيد -رحمه الله- إقامتها، لتكون منارات هدى لنشر العلم والثقافة الإسلامية، المؤصلة على البر والإحسان فلم تملك حكومات تلك البلدان إلا القبول والترحيب بأن تحتضن بلدانهم تلك المراكز، لما لمسوا فيها من سماحة مؤسسها وراعيها وحكته، وسعيه للتواصل الإنساني الراقي.
وأما الخصلة الثالثة: فقد علم الناس ما في ذريته وما لهم من نصيب وافر في أعمال البر والإحسان، وأياديهم البيضاء ومساعيهم النبيلة مما سارت بالحديث عنه الألسن، مسير الشمس في فلكها، فنرجو الله أن يجعل في ذريته الصلاح والفلاح.
ثالثاً: مشروعية إشاعة مآثر الموتى وخاصةً أئمتهم:
إن من حق أي ميت من أموات المسلمين أن تذاع فضائله وتنشر محاسنه، ولا ريب أن المسلم إذا كان ذا هيئة ومكانة فإن هذا الحق يكون أجدر، ومن حق فقيدنا الملك عبدالله -رحمه الله- أن يفصح كل صاحب بيان عن مآثره وخصاله الكريمة.
أحرر هذه الأسطر وأنا أستحضر البشارة النبوية العظيمة التي أرجو الله الكريم أن يهبها لفقيدنا الغالي، ذلكم ما رواه البخاري -رحمه الله- عن أبي الأسود قال: قدمتُ المدينة وقد وقع بها مرض، فجلست إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فمرَّت بهم جنازة فأُثنِيَ على صاحبها خيراً، فقال عمر: وَجَبَت، ثم مُرَّ بأخرى فأُثنِيَ على صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت، ثم مُرَّ بالثالثة فأُثنِيَ على صاحبها شراً، فقال: وجبت، فقال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت: كما قال النبي -صلي الله عليه وسلم-: “أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة” فقلنا: وثلاثة؟ قال: ” وثلاثة ” فقلنا: واثنان؟ قال: “واثنان” ثم لم نسأله عن الواحد.
أقول: فدلَّ هذا على ما ينبغي من إشاعة مآثر الموتى وذكر محاسنهم.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: وهذا الحديث على عمومه، وأن من مات من المسلمين فأَلْهَمَ الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان دليلاً على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة، وهذا إلهامٌ يُستدل به على تعيينها، وبهذا تظهر فائدة الثناء، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعا: “ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً إلا قال الله تعالى: قد قَبِلْتُ قولكم، وغفرت له ما لا تعلمون”.
وفي ضوء ذلك: فإن من المهم أيضاً أن يعتنى بتدوين مآثر مليكنا الفقيد، حتى تستفيد منها الأجيال، ولذا فإني أدعو أقسام الدراسات العليا في الجامعات السعودية وأقترح عليها أن تسجل للباحثين دراسات متخصصة في مرحلتي الماجستير والدكتوراة، يتم فيها رصد مجالات التميز في شخصية الملك عبدالله وسيرته، في المجالات الشرعية كخدمة الإسلام والعناية بالمسلمين، وفي المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها.
رابعاً: الأسرة المالكة والمجد الأثيل:
المتأمل في تأريخ أسرة آل سعود يلحظ ما وهبها الله من مجد أثيل وفضل كبير ارتبط بخدمة الإسلام، فتوالى الأئمة من آل سعود على رفع راية التوحيد وإعلاء شأن الدين، فنالوا من السؤدد والتمكين ما بقي ثابتاً إلى عصرنا هذا، حيث جاء دور الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن وأبناؤه من بعده رحمهم الله، وكان للكريم مزيد تفرد بما يسر الله له من العناية بأعظم مقدسات المسلمين، ونشر الخير بين العالمين. وإن مما ينبغي أن يسجل في هذا المقام، وهو مما يبعث الطمأنينة والارتياح الكبير، والولاء العظيم، ما أثبتته الأحداث من تماسك الأسرة المالكة، وما يعلمه كل فرد منهم من الحقوق لكبار الأسرة ومقدميها، وتقديمهم للمصالح العليا للأمة، ذلك أن هذه الأسرة لا تشبهها في العصر الحديث أي أسرة، ولا تدانيها في مجدها وعزها، فالأسرة المالكة ذات ارتباط استراتيجي بدين الإسلام على مدى أكثر من ثلاثمائة سنة، وإن عز هذه الأسرة عزٌّ للإسلام والمسلمين.
وقد كان من اللغو العجيب ما تحدث به بعض الناس في الداخل والخارج حول ما يتعلق بخلافة الملك -رحمه الله-، وقد كان هذا اللغو ناشئاً عن عدم إدراك لتاريخ الأسرة السعودية الملكية منذ عهد الإمام محمد بن سعود -رحمه الله-، وحتى يومنا هذا، وخاصة أبناء الملك عبدالعزيز وأحفاده، فإن من يطلع على طبيعة علاقتهم ببعضهم وتعاملهم فيما بينهم، يدرك أن الحديث عن خلافة الملك وتعيين معاونيه أمر محسوم، وأن التأويلات المتشائمة ما هي إلا تخرصات دالة على جهل أصحابها أو نواياهم السيئة.
خامساً: في خليفة الفقيد عزاء كبير:
إن من أكبر العزاء في نفوسنا أن هذا القائد الكبير وهو يغادر دنيانا مأسوفاً عليه، إلا أنه لم يدع موضع القيادة فارغة أو مهزوزة بقلة الخبرة وضعف الدراية، بل إنه -رحمه الله- قد جعل له في حياته عضداً يشد أزره ويشركه في إدارة شئون البلاد، وهما النائبان سلمان ومقرن . وذلك لدى سفره أو غيره من عوارض الحياة.
فحين يغيب الملك عبدالله هاهو الملك سلمان يتولى إدارة شئون البلاد وهو المؤهل العارف الخبير، فلا مجال لممارسة تجارب مشكوك فيها،أو قدرات تعاني الاهتزاز والتردد،بل إن المتابع لسياسات البلاد الداخلية والخارجية لن يلاحظ تغييراً في مسارها، حيث إن الثوابت والمنطلقات بينة واضحة، اللهم ما يكون من سياسات تقتضيها المرحلة وتفرضها المستجدات تحقيقاً للمصالح العليا.
وهاهو ولي العهد الأمير مقرن يتسنم منصباً آخر، لن يكون فيه غريباً ولا مجرباً، وإنما هو الخبير العارف، ليستكمل معاضدة القائد كما كان في موقعه السابق.
إن إدراكنا لهذه الأسس لتبعث الطمأنينة الكبيرة في أن حاضر هذه البلاد ومستقبلها هو محل العناية والرعاية من أولئك القادة الأعزة، خاصة وأن موقع هذا الوطن الغالي ومكانته لهما اعتبارات عدة، أهمها كونه حاضن الحرمين الشريفين ومهوى أفئدة المسلمين، وحامل لواء الدعوة إلى الله تعالى.
والله المسئول أن يرحم فقيدنا الملك عبدالله ، وأن يجزيه على خدمة الحرمين ونشر كتابه العزيز وخدمة المسلمين أفضل الجزاء وأعظمه، وأن يسكنه جنات النعيم، وأن يفرغ الصبر على بنيه وبناته وأهله، وأن يخلف على الأمة فيه خيراً، وأن يوفق خليفته الملك سلمان لما فيه خير الأمة وسؤددها، وأن يجعله وولي عهده الأمير مقرن مفتاحاً لكل خير، مغلاقاً لكل شر، وأن يرزقهما البطانة الصالحة الناصحة، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.
>