بقلم/خالد بن محمد الأنصاري
🖋️ يعد شيخي العلامة معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ من العلماء الأجلاء الذين أثنيت الركب في حلقاتهم العلمية.
عرفته كما عرفه الجميع بتواضعه وسمته ودماثة خلقه وبشاشته وحرصه على طلابه أثناء تعليمهم، سواء في حلقاته العلمية أو مجالسه الخاصة.
وقد كتبت عنه عدة مقالات سابقة(١) ؛ ولا أجدني أوفي حقه في جميع ماكُتب.
فهو من أكثر العلماء المعاصرين حبًا للعلم ونشره بين طلابه بإقامة العديد من الدروس العلمية في عدد من الكتب الشرعية على اختلاف فنونها ، وكذلك المحاضرات الدعوية والخطب المنبرية ، والسعي الدؤوب على تحصيل الكتب والمخطوطات في جميع فنونها ، وهذه أمنية كل عالم من العلماء شغوف بالعلم ساعيًا لنشره في كتبه وبين طلابه، على حد قول الإمامِ أبي مُحمَّدٍ ابنُ حزمٍ الأندلُسيُّ القُرطُبيُّ (ت٤٥٦هـ) – رحمه الله – حين قال :
مُنايَ من الدُّنيا عُلومٌ أبثُّها
وأنشرُها في كلِّ بادٍ وحاضرِ
دُعاءٌ إلى القُرآنِ والسُّنَنِ التي
تَناسى رجالٌ ذِكرَها في المَحاضرِ
وكثيرًا ما كنت أقول لأترابي منذ قرابة ثلاثة عقود بأنني أحد خريجي جامعة “آل الشيخ” وأعتز بذلك ، فشيخنا جامعة معرفية في سعة علمه وبعد أفقه وحدة نظره في المسائل الشرعية.
واليوم أجدني أكتب عن “شغف شيخنا ونهمه بالكتب” وحبه لها ، والمنهوم بالعلم والمولع به وبمصنفاته لا يشبع منه كما جاء في الحديث الحسن عند الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”منهومان لا يشبعان: منهومٌ في العلم لا يشبعُ منه ، ومنهومٌ في الدنيا لا يشبعُ منها”.
وعن ذلك يقول شيخنا حفظه الله في أحد لقاءاته :
(بيني وبين الكتاب عشق ومحبة طويلة الأمد
منذ كنت صغيراً ، حرصت على الكتب وأحببت الكتاب حتى أنه في مكان نومي لابد أن يوجد مجموعة كبيرة من الكتب ، حتى لو لم أقرأ بس فقط لأنظر إليهـا ).
ويذكرني كلام شيخنا هذا بما قاله الإمام ابن الجوزي (ت٥٩٧هـ) – رحمه الله – عن نفسه حيث قال : (وإني أُخبِرُ عن حالي : ما أشبع من مطالعة الكتب ، وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز .
ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب).
قال أبو الطيب المتنبي:
أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ
وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ
وشيخنا من كبار العلماء شرفًا وقدرًا وعلمًا ، ومن أحرصهم على جمع الكتب النوادر على مارزقه الله عزوجل من العلم والبصيرة والحكمة والمعرفة ؛ علاوة على كونه من أخبر المشايخ بالمخطوطات ونوادر الكتب وطبعاتها ، ويعد مرجعًا فيها ؛ وصاحب أكبر مكتبة شخصية كما ذكر العلامة المؤرخ الشيخ محيي الدين الطعمي في كتابه “طبقات هواة الكتب المسمى مانقله الرواة من أخبار الهواةِ” حيث قال عن شيخنا:
(وزير الأوقاف السعودي ، كان من كبار هواة الكتب في العالم ، اشترى الكثير من المكتبات من شتى دول العالم ، اقتنى مكتبة ضخمة ، وجلب أبناء المجلد المصري الشهير الحاج عرفة ، بعد موت عرفة ، فظلوا عنده في الحجاز سنين ، حتى جلدوا له مكتبته ، وأثروا من ورائه ثراء عظيماً.
واشترى مكتبة الشيخ أبي المجد عبدالفضيل ، التاجر المصري الشهير ، بعد موته).
وإن غرام شيخنا بالكتب والحرص على شرائها بأغلى الأثمان لهو خير شاهد ودليل على المحبة الصادقة للعلم والرغبة في تحصيله ؛ تأسيًا بمدارج أئمة السلف في حبهم للكتب وجمعها والحرص على الانتفاع بها ؛ فهذا الإمام ابن قيم الجوزية (ت٧٥١هـ) – رحمه الله – كان شغوفًا بجمع الكتب ومن ذلك ماذكره عنه مترجموه فقال عنه تلميذه الحافظ ابن كثير (ت٧٧٤هـ) – رحمه الله – :(واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشر معشاره من كتب السلف والخلف).
وقال عنه أيضًا تلميذه الحافظ ابن رجب (ت٧٩٥هـ) – رحمه الله – : (وصنف تصانيف كثيرة جدًا في أنواع العلم ، وكان شديد المحبة للعلم ، وكتابته ومطالعته وتصنيفه ، واقتناء الكتب ، واقتنى من الكتب مالم يحصل لغيره).
وقال الحافظ ابن حجر (ت٨٥٢هـ) – رحمه الله – : (وكان مغرى بجمع الكتب فحصل منها ما لا يحصى حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرًا طويلًا سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم).
قال أبو عبد الله محمد بن الحسين المقرئ:
إني لما أنا فيه من منافستي
فيما شغفت به من هذه الكتب
لقد علمت بأن الموت يدركني
من قبل أن ينقضي من جمعها أربي
ولا أؤملُ زادًا للمعاد سوى
علمٌ عملتُ به أو رأفتي بأبي
ولمجالسة الكتب أنس ولذة وسعادة لا يعرفها إلا من تعلق شغاف قلبه بالعلم كما هو حال شيخنا الشيخ صالح آل الشيخ حيث يعبر عن ذلك بقوله:
(الكتبُ مِن ملذَّات الحياة؛ لأن مُجالسة الكتاب أحسن مِن مُجالسة أيِّ شيء في الدنيا، وأنا ليس لدي أصدقاء … فغالبُ مُتعتي في مُجالسة الكتب!).
وصدق شيخنا فإن متعة الخلوة بالكتب وإمعان النظر فيها بتقليب صفحاتها وإخراج فرائدها والاستئناس بها عن مخالطة الكثير من الناس لمن أجمل المتع الدنيوية.
قال أبو حيان الغرناطي منشدًا لنفسه:
أرحتُ نفسي من الإيناس بالناسِ
لمَّا غَنَيتُ عن الأكيَاسِ باليأسِ
وصرتُ في البيتِ وحدي لا أرى أحدًا
بناتُ فكري وكُتْبِي هُنَّ جُلَّاسِ
ولطالما أوصى شيخنا الطلاب بتمتين العلاقة مع الكتب بإمعان النظر فيها ، وكثرة المطالعة وتكرار القراءة ، ويذكر أحيانًا بعض المواقف الشخصية له ، وإليكم نماذج من أقواله ووصاياه في ذلك :
🔸مطالعة العلم في الكتب من أهم ما يكون ، وهذا يتطلب أن يكون لطالب العلم صلة عظيمة بالكتاب.
🔹العلم واسع، وطالب العلم يتوسع في البحث إذا اطلع على الكتب، لهذا لا يتصور أن تكون باحثا بدون اطلاعٍ على الكتب، ولن تكون مطّلعا على الكتب إذا اقتصرت على ما يباع، أو ما عندك؛ لأن الكتب بحر لا ساحل له، بما تحمله هذه الكلمة من معنى.
🔸أذكر وصية أوصاني بها أستاذنا الشيخ محمود محمد شاكر أديب مصر وشيخ العربية، وقد قرأت عليه بعض الكتب في الأدب، سألته مرة، قلت له: أوصني بكتاب أقرؤه في اللغة .
قال لي : اقرأ لسان العرب .
قلت : لسان العرب عشرون مجلدًا، أريد كتابا آخر .
قال : «إذا كان عشرون مجلدًا كثيرًا عليك ، فابحث عن شغل آخر غير العلم».
وهذه كانت كلمة مؤثرة للغاية، ثم قال : قرأناه على شيخنا محمد سيد المرصفي مرتين، وفي الثالثة توفي، ولم نكمله.
🔹الانجذاب للكتب ومتابعة جديدها من أسباب الثبات على العلم، وإذا ابتعدت عن الكتب فإن العلم يضعف.
🔸الكتب لا بد من العناية بها من جهة تجليدها ، ومن جهة حفظها ، وهذا يعني أنه كلما اعتني بالكتاب من جهة جلده ، والمحافظة عليه بما يبقيه أكثر في المستقبل ، كلما كان ذلك أكثر في الأجر والثواب.
🔹وهناك كتاب كنت قرأته منذ نحو عشر سنوات ، فلما نظرت في أوله أخذته من مكانه في المكتبة ، وهو كتاب لجمال الدين القاسمي “الفضل المبين في شرح الأربعين” ، وإذا بي قد قرأت الكتاب ، وذكرت الفوائد التي فيه ، فإذا بها فوائد كثيرة تسعين في المائة منها نسيته ، فبدل أن أقرأ الكتاب مرة أخرى ، فإذا هذه فائدة ، وهذه فائدة ، وهذه فائدة.
🔸فالكتاب لطالب العلم أشبه مايكون بأحد أعضائه ، فكتب طالب العلم خلاياه التي يعيش بها ، وهي سمعه وبصره الذي لو فقده لضعف في العلم شيئًا فشيئًا ، وترى أن الذي يضعف في المطالعة ، ويضعف في النظر في العلم ، وفي القراءة تجد أنه يضعف قليلًا قليلًا ، وينسى العلم شيئًا فشيئًا، حتى يكون أميًّا بعد مر سنين من الزمان ؛ وهذا لأن مطالعة العلم في الكتب من أهم ما يكون ، وهذا يتطلب أن يكون لطالب العلم صلة عظيمة بالكتاب.
وهذا دأب شيخنا منذ أن عرفناه في تقريراته ودروسه ومحاضراته العلمية النافعة لا يغفل عن الوصية بما شغف به من حب للكتب والمطالعة ؛ وكل ذلك تقديرًا لأهمية الكتاب وبيان منزلته، وحث الطلاب – ولا سيما الشباب منهم خاصة – على استكشاف متعة القراءة والنهم بالعلم والاهتداء لما في بطون الكتب من الكنوز الثمينة ، ومعرفة فضل مؤلفيها.
قَلَّبتُ كلَّ ثمينٍ كنتُ أخزُنُه
فما وجدتُ به أغلى من الكُتبِ
يا سقى الله تلك الأيام والليالي الجميلة ؛ وما أطيب ذكراها ، كنا نحضر فيها درس شيخنا مساء يوم الأحد في جامع الأميرة حصة السديري بحي المعذر يشرح فيه كتاب العقيدة “الطحاوية” من كل أسبوع فيبدأ الدرس بذكر “آداب طالب العلم” قبل الشروع في الدرس ريثما يحضر بقية الطلاب.
وكذلك ” درسه الجامع” فجر يوم الخميس في شرح العديد من الكتب المتنوعة والتي يشرحها شيخنا ومنها: “تفسير ابن كثير” و”صحيح البخاري” و”أصول الإيمان” و”الاستقامة” و”زاد المعاد” و”الفرقان” و”الكافي” و”سنن أبي داود” وغيرها من كتب أهل العلم.
ثم نلتقي بعد الدرس ببعض الزملاء كالشيخ بدر الوهيبي ، والشيخ عبدالسلام الشويعر ، والشيخ عبدالمنعم المشوح ، والشيخ محمد القحطاني ، والشيخ محمد الأنصاري ، والشيخ منصور الجبرتي ، والشيخ راشد الزهراني ، والشيخ عادل رفاعي ، والشيخ فواز عثمان .. وغيرهم.
إن الحنين لتلك الأيام والشوق لشيخنا ولزملائي له ارتجاء يظل متوهجًا …
هكذا هي المشاعر الصادقة، لن تتغير ولن يعتريها الصدأ ولا يطويها النسيان لدى الأوفياء والمحبين:
وذو الشوق القديم وإن تعزّى
مشوق حين يلقى العاشقينا
وعليه فقد بعثني باعث الحب والوفاء لشيخنا معالي الشيخ صالح آل الشيخ لتسطير هذه المقالة ولسان الحال يقول له :
ياصالح الخير يا نجل الهداة لنا
كالغيث حل بأرض وهو ينهمرُ
ورثت خير عباد الله منزلة
فأنت أهل وفيك الإرث ينتشرُ
إن كنتُ قصرت يوماً في محبتكم
فإنني من خلال الشعر أعتذرُ
وأسأل الله تعالى أن يحفظ لنا شيخنا ، ويمتعه بالصحة والعافية ، وأن يرفع قدره ، ويعلي منزلته في الدارين ، وأن يبارك في جهوده العلمية والدعوية ، وأن ينفع بها الإسلام والمسلمين.
🔘 إضاءة :
الحمد لله على نعمة الشغف بالكتب ، ونعمة التعلق بها ؛ فهي الكنز الثمين والرفيق الأمين.
الجمعة ٩ محرم ١٤٤٥هـ
بمكة بلد الله الحرام
———————————————
١- ينظر لها في كتابي “مداد قلم” (ص ٣١٧-٣٢٧) والذي طبع مؤخراً عن دار ابن الجوزي.
وأعد حالياً كتاباً ضمنته جميع ماكتبت عن شيخنا وذكر بعض تقريراته وفوائده ، وقد وسمته بعنوان (نفائس الفرائد) يسر الله تعالى إخراجه.