حين يوقظني الحنين

بقلم الأستاذة / صالحة القحطاني

“كان موت أمي فادحاً ، لم أكن اعرف أن لموتها رائحة المسك وحبات الهيل في فناجين القهوة المرة .. لم أكن أعرف أن لموتها رائحة العدم ،الصمت ، والنحيب في جنبات الليل”

كانت ليالي الشتاء نوفمر 2021 باردة وقاسية وحزينةً جداً ،ظللتُ منزوية بيني وبين ذاتي وأتحرى انقضاء الوقت بضجر، وألتحفُ الإنتظار وأرتدي وجه الرضا رداء، بتُّ أخشى مباغتات الحياة ومفاجآت القدر، خشية من أن تحلَّ غيمة الفقد فوق أرض الروح، لكني استيقظت من سبات ذاك الشتاء بفزعٍ مفاجئ ، وملامح مذهولة، ودهشة المُتيقظّ من حُلم غريب، بات حبلُ الفقد يلتفُّ حول عنقي. ويتلبَّسُ أعماقي ويُوشمُ داخلي جُرحاً غائراً.

ذات مساءٍ شاحب ضرب الفقد أطنابه في عُمق سكوني، ورائحة الموت أوقدت بداخلي فتيل الوجع وندوباً يستحيلُ الشفاء منها، في تلك اللحظة شعرتُ بسكينٍ تخترق روحي ويدسُّ في ملامحه الأسى ويقتُل أجنّة الأحلام.

ارتجفتُّ خوفاً وبرداً وحزناً من هول الصدمة، يداي ترتعش، كلماتي تتنهّد، وبردٌ يسري في أوردتي، تلتحمُ شفتاي ويتلاشى فمي، تحسّستُ وجهي بأصابع مرتعشة ، يهتزُّ توازني، أقاوم أنهياري وأجمع شتات ماتبقى مني فيسقُط جميعي ويهزمني البكاء، فأندبُ وجعي وخسارتي بقلبٍ يقطُر حُزناً، وعبرةً حارقة شقّت طريقها على وجنتاي.

قرعت الفاجعة طبولها ورائحة الموت جثمت فوق صدرٍ حالم لتغتال فرحته، وتسرق أمنيته البسيطة، ليسجنني مؤبداً في حكايات اليُتم الحالكة.

أقف مجدداً على شواطئ الذكرى، وأبكي ليالي الشجن والحنين، وأُجرجرُ ذاكرتي التي ترفضُ فكرة غيابكِ الأبدي، فأتوسّدُ طيفكِ وحنانكِ وكلماتكِ ،يُخيَّل لي عينيكِ التي أطبقهما الموت قبل أن ألثمهما، فمن غير أمي يستطيع ترجمة حاجاتي الأعجمية، لقد قتلني الشتاء وأنا أبحث عن دفئك، لقد أصبح شتائي بعدك شجنٌ وندمٌ وحنين، أهيم تائهةً بعدك كطائر نُزع ريشه ضاع في الفضاء ونسيته الأرض، فمن يُبدد وحشة ليلي ويقف بوجه عواصف الذكريات، وعند ازدياد عنف الموج بداخلي وهي تتقاذفني بين مدٍّ وجزر ، ومن يلحظ هشاشة روحي وكلماتي غيركِ ، ومن يهرع عند انحسار اللحاف عني ليبعث لي بالدفء الذي أفتقره، ويُهدهدُ وَجدي ويلمحُ بعثرة احساسي ويلحظُ بكاءً مخبأً خلسةً في عيني.

ففقدكِ سكين انغرست في خاصرة قلبي وذكرى عصيّة على لعنة النسيان، يُخيّل إليّ طيفُكِ وهمس صوتكِ ورائحة كفيكِ آهٍ كم اشتقتُ لها ، بِتُّ أعتكفُ في عُزلتي وألجأ لوحدتي لأرسم طيفكِ الراحل وأُنحتُ صورتكِ المطبوعة في جدران قلبي، أُناجي ذاكراكِ كل ليلة وأتذكركِ كلما هطل المطر أو عند رؤية القمر يتوسّط السماء، فما أشدّ وأنكأ على القلب من وطأة الفراق.

لقد افتقدتكِ سجادتكِ الغافية بروحانيتها على ذاك المُتكأ، وساعتك قابعة فوق رفّ الطاولة، افتقد الحناء لراحة كفيك الطاهرة، منديلكِ الأصفر يسألني عنكِ، أشتاقت لكِ جنبات القرية، ورياح الخريف، وأمطار الشتاء، أشتاق لكِ الحطب المركون في الزوايا، وأحواض الريحان التي أشتمُّ رائحتكِ من أوراقه، وأزقّة القرية باتت تحنُّ إلى خُطاكِ، بما أُجيب صدى صوتكِ الجامح. ونداءاتكِ العذبة. وصلواتكِ الخاشعة. وتلاواتكِ الزكيّة. وابتهالاتكِ الشجيّة التي لاتفتأ تطرُق رأس ذاكرتي، استنشقُ رائحتك فتستوقفني زوايا غرفتك وسريركِ الخالي، وصندوق الدواء الممتلئ، أصبحت كالأطلال تبكي من الفقد وتئنُّ من الذكرى.

أمي ماحيلتي والذكرى تُشجيني، وتُؤرقني، وتُدمي فؤادي ، وتُمزّقُ روحي، اغفوا وفجيعة فقدكِ تبتُرني وتُنهك قلبي، وتُشتتُّ روحي، وتُفتتُّ أعصابي، وذكرى تنخر جسدي بهدوء قاتل ، فأتوارى خلف قلبي النازف، وأعود لوحدتي مجدداً، وألتزمُ الصمت حداداً حينما يهزمُني حنيني الجائع لكِ واستغراقي من حُلمٌ أشبه بالسراب.

(أمي) تالله أرهقني الحنين وسيل ذكرياتكِ المختبئة والعالقة في جوف صدري، فليس سهلاً أن أتجاوز فقدكِ برشاقة، وليس سهلاً مايُسمى بالحنين..

شاهد أيضاً

” مهارات التأثير الإعلامي “

  بقلم – سراء عبدالوهاب آل رويجح: أقيمت بمحافظة بيشة يوم أمس الخميس التاسع عشر …

2 تعليقات

  1. أمل العبدالله

    مقال هز وجداني وجعلني استرجع ذالك اليوم الذي فقدت فيه امي
    رحم الله امهاتنا وجبر كسر قلوبنا بفقدهم
    فالذكرى توجع اكثر من الفقد 💔

    • صالحة القحطاني

      مرحباًالف الأخت والصديقة والأستاذة أمل العبدالله سعيده بمرورك الراقي وتعليقك الجميل
      لقلبك كل الخير و السلام ❤️

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com