وفى بعهده حتى بعد موته

بقلم / سميه محمد

هناك قصص كثيرة أمتلئت بها صفحات التاريخ العربي فكانت بمثاية موسوعة من المعلومات التي تتضمن القيم و المبادىء و الأخلاق الكريمة ، كذلك تضمنت خبرات و تجارب استفاد منها كل من اطلع عليها و نشرها لتكون كمرجع ينهل منه كل من يحتاج إليه ..

فمعظم اصحاب هذه القصص معلمين حقيقين لجيلهم و للأجيال التي تلتهم رغم ان منهم من تورط بأعمال غير شرعيه ، و لكن يبقى الإنسان إنسان في داخله خليط من الخير و الشر ولابد من اخذ العظة و العبرة عند معرفة كل قصة مرت أحداثها على عتبات التاريخ ..

و التاريخ غني بما يحتويه من تاريخ الوقائع و الأساطير أو تاريخ الحضارات والأديان أو تاريخ الشخصيات ومنها تكون هناك شخصيات مشهورة قد تخطت شهرتها العالم العربي إلى العالم الغربي ومع الأسف هناك شخصيات عربية يعرفها الغرب ويدرسها بكل تفاصيلها بينما معظم العرب يجهل هذه الشخصيات ،

و هناك شخصيات منسية مدفونة بين أرفف مكتبات التاريخ حتى تمتد يد محب التاريخ إلى هذه الأرفف فيظهر ماكان مختفي للعلن فتشهد هذه الشخصيات النور الذي يجعل من الكل يراها و لا يستطيع أن ينكرها ..

من هذه الشخصيات الرائعة و النبيلة شخصية ( الشنفرى ) وهو عمرو بن مالك الأزدي من بني الحارث ابن ربيعة ، توفي عام ( ٧٠ ) قبل الهجرة مشهور من اليمنية و معنى ( الشنفرى ) في اللغة (غليظ الشفاة ) و قيل ( حدة الطبع ) ..

نشأ ( الشنفرى ) طفلاً يتيماً من قبيلة تسمى الأزد ، و كانت قبيلته و قبيلة الأوس بينهما حروب و منازعات لا تنتهي ، ثم أسر أحد زعماء الأزد فعرص بعض الأشخاص من الأزد على الأوس ان يعطوهم الطفل ( الشنفرى ) مقابل الأفراج عن الزعيم المأسور ، فوافقوا واخذوا الطفل على أساس أن يصير عبداً عندهم ، ولكن الشخص الذي رباه عامله كأبن له و اعتنى به كأنه من صلبه فكبر و صار فارساً لا يشق له غبار ،

و كانت عند ذلك الرجل إبنه جميلة أحبها ( الشنفرى ) فطلبها من أبيها ،

فقال الأب :

أنت في الأصل من قوم أعداء لنا ولولا أن يقتلني قومي لزوجتك أبنتي فأنت عندي من أفضل الرجال .

فقال ( الشنفرى ) :

والله إن قتلوك لأقتلن (مائة) رجل منهم .

فأعجب به الرجل وبما قال من كلام امتزج بمحبة ووفاء له .

فقال الرجل :

خذ البنت فقد زوجتك أياها و أمضيا إلى قبيلتك الأصلية ، فأخذها ( الشنفرى ) و مضى ، و بعد عدة أيام جائه الخبر أن مئات من الرجال الغاضبين الذين أعماهم الحقد من قبيلة الأوس قد أجتمعوا على أب الفتاة ، وقتلوه وهم يغرسون رماحهم في جسده ، فقتل عمه قبلاً من الخذلان و الغدر ثم قتل بعداً برماح حاقدة من رجال عرفهم و عرفوه من قبيلته ..

فسأل ( الشنفرى ) عن القتله ولم يهدأ حتى عرف أسماء القتلة واحداً واحداً ، ثم صار يصنع السهام بيديه ويضع علامة تدل على أسمه على كل سهم ..

وفي أثناء ذلك أنظم إلى الصعاليك حتى تزيد خبرته و تصقل مهارته في القتال و يشتد ساعدة بقوة واتقان عند رمي السهام ، فانظم إلى صعاليك ( تأبط شراً ) ..

ثم صار يغير على قبيلة الأوس وحده و يرميهم بالسهام فقتل منهم أعداد كثيرة ممن شاركوا في قتل عمه قتل العشرات منهم إلى أن اغار عليهم مرة فقتل الرجل ( السابع و التسعين ) منهم ..

فضاقت قبيلة الأوس منه فطارده فرسان القبيلة ، فهرب إلى الصحراء القاحلة ..

فقال فارس من فرسان الأوس :

ليس في كل هذه المنطقة سوى بئر ماء واحد ، وهذا الهارب سيحتاج إلى الماء بالتأكيد ولن يجد إلا هذا البئر فاختبئوا قرب البئر ،

وتعاهدوا على أن يمسكوه هذه المرة وأقسموا فيما بينهم ان لايصدر أي منهم صوتاً حتى لومات او قلعت عينه او اصيبت يده ..

و بالفعل جاء ( الشنفرى ) مقترباً من البئر في الليل و كانت ليلة ظلماء يفتقد فيها القمر ، فشك بكمين ينتظره ، فنادى من باب الإحتياط :

لقد رأيتكم فأخرجوا .

فلم يخرج أحد ، ثم اقترب من البئر اكثر فرمى سهماً على التل القريب منه فأصاب واحداً منهم فتحمل الألم و لم يصرخ .

فعرف ( الشنفرى ) من صوت السهم عندما وقع ان هذا السهم لم يصب رملاً او حجراً ، فرمى سهماً ثانياً في العتمة فقتل واحداً منهم فأمسكوه حتى لايقع على الأرض فيصدر صوتاً ..

ثم اقترب ( الشنفرى ) الذي اشتد به العطش حتى وصل للبئر فلم يجد دلواً فنزل إلى داخل البئر متسلقاً على جدرانه ..

وعند ذلك هجموا عليه وضربه احدهم بالسيف على يد ( الشنفرى ) فقطعها ، فامسك ( الشنفرى ) يده المقطوعة وقذف بها على وجه الرجل الذي قطعها فوقع في البئر فقتله ( الشنفرى ) فصار عدد القتلى ( تسع و تسعين) ..

وتمكنوا أخيراً من أسره ( ويقال انه أسر في جبل العسل الذي لازالت آثاره موجوده في جبال السروات ) .

ثم قاموا بقتله أمام كل الناس ، ثم صلبوه وتركوه معلقاً مصلوباً لمدة سنتين ليكون عبره لكل أعدائهم ..

بعدما عرفت زوجته بخبر قتله قالت :

لم آسف على شيء مثل أسفي على عدم قدرته على تنفيذ وعده لأبي بقتل مئة منهم قبل أن يقتلوه .

فرأته تلك الليلة في المنام وهو يقول لها :

لا تأسفي سأبر بوعدي .

وبعد يومين سقط رأس ( الشنفرى ) من على جثته الأخذة في التحلل ،

فنادى بعض الأطفال الرجل الذي قتله وقالوا :

لقد سقط رأس الجثة .

فجاء الرجل ليرى جمجمةرأس ( الشنفرى ) على الأرض ، فرفسه برجله فدخلت عظمة من رأس ( الشنفرى ) في رجل الرجل فتورمت رجله ، وبعد أيام أنتشر الورم في كل جسمه فمات فأكتمل العدد و صاروا ( مئة ) فوفى ( الشنفرى ) بوعده حتى بعد موته ..

( الشنفرى ) شاعر عاش أيام الجاهلية تغنى محبين الشعر بشعره ،

و هو صاحب

( لامية العرب )

فهناك شعراء اطلقت لاميات قصائدهم بأسمائهم إلا( الشنفرى ) فقد نسبت إلى العرب أفتخاراً بها و قد تنافست بحبكتها و جمالها ( المعلقات ) رغم أنها ليست منها ..

وقد قال عمر بن الخطاب :

عن ( لامية العرب )

علموا أولادكم لامية العرب فأنها تعلم مكارم الأخلاق .

ومنها :

~_أقيموا بني أمي، صدورَ مَطِيكم

فإني، إلى قومٍ سِواكم لأميلُ!

فقد حمت الحاجاتُ، والليلُ مقمرٌ

وشُدت، لِطياتٍ، مطايا وأرحُلُ؛

وفي الأرض مَنْأيً للكريم عن الأذى

وفيها، لمن خاف القِلى، مُتعزَّلُ

لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضيقٌ على امرئٍ

سَرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ

ولي، دونكم، أهلونَ: سِيْدٌ عَمَلَّسٌ

وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ

هم الأهلُ. لا مستودعُ السرِّ ذائعٌ

لديهم، ولا الجاني بما جَرَّ، يُخْذَلُ

وكلٌّ أبيٌّ، باسلٌ. غير أنني

إذا عرضت أولى الطرائدِ أبسلُ_~

( لامية العرب ) تناولها مشاهير الأدب و اللغة بالشرح و التحليل و منهم الزمخشري ، و المفضل الصبني ، و المبرد وغيرهم ،

كما اعجب بها المستشرقون فترجمت إلى الإنجليزية ، و الفرنسية ، و الألمانية و الإيطالية ، و اليونانية .

ولعل من أسباب ولع الأدباء و المستشرقين بها جزالة ألفاظها ، وتعبيرها الصادق عن حياة العربي وأخلاقه زمن الجاهلية ، و عن حياة الصعاليك على وجه الخصوص ..

عرف ( الشنفرى ) بنخوته ووفائه ، شاعر قوي الالفاظ وثري باللغة في جمالها و مضمونها .

كان ( الشنفرى ) سريع العدو ولاتدركه الخيل حتى قيل :

( أعدى من الشنفرى )

وهو من الصعاليك و الصعلوك في اللغة الذي لامال لديه ، و المطرود من قبيلته ، كما أنه يغير على الاغنياء لسرقة مالهم مع أخذ مايكفيه و يوزع الباقي على المحتاجين .

تعتبر شخصية ( الشنفرى ) من اجمل الشخصيات التاريخية العربية المحبوبة و التي نحسد أنفسنا كعرب أنها موجودة في التاريخ بكل تفاصيلها و جمالها على الرغم من كثرة الرويات و اختلافها إلا ان الرويات الأصح هي التي تطغى ويبقى الأثر بعد الرحيل و الذكرى مستمرة …..*

شاهد أيضاً

مستقر العز

بقلم الشاعر / محمد بن عبدالخالق العسيري أيا موطني ، موطنُ الفاتحينْ وفخرا يعم على …

تعليق واحد

  1. نعم. أستاذة. صعلوك ولكن شاعر عظيم له قلب لا يعرف الخوف و لا يرضى بالذل يحمل قيم نبيلة و أنفة الفارس الجسور و وفاء السيد الكريم… قل وجود هذه الصفات في هذا الزمان…

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com