بقلم الكاتب / علي أحمد السحاري
“أقسم بالله العظيم أن أراقبَ الله في مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلاً وسْعِى في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للنّاس كرامتهم، وأستر عورتهم، وأكتمَ سرهم. وأن أكونَ على الدوَام من وسائل رحمة الله، باذلا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو…الخ”
هذا هو اليمين والقسم الغليظ الذي يقوله الطبيب المسلم عند تخرجه من كلية الطيب (حسب ميثاق الشرف النقابي العربي، القسم الطبي للمؤتمر العالمي للطب الإسلامي)
مهنة الطب وأخواتها من أشرف وأنبل المهن الإنسانية على وجه الأرض، حيث إنها-في الأصل – تتجرد من كل معاني العنصرية والطبقية والتفرقة وأي شيء مسيء قد يمارسه الشخص العادي في أي جانب من جوانب النزوات والزهو والجور والانتقام وحب الذات تجاه أبناء جلدته… كل تلك الصفات البشرية القبيحة منزوعة الدسم من الإنسانية، يجب على الممارسين الصحيين وبالأخص الأطباء ذكورا وإناثا أن ينقوا أفعالهم وأقوالهم منها، وأن يكون الإحسان والعطف والقول الحسن هو الأصل في تعاملهم مع المريض.
وبهذه المعاني الإنسانية السامية جاءت الشريعة الإسلامية قبل أكثر من عشرة قرون وبضع سنين، معززا لقيمه العليا السامية التي لا تقبل القسمة على اثنين، لتجعل من هذه المهنة ذات عظمة وسمو؛ قال تعالى: [ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا]. فالتوجيه الرباني العظيم لم يحدد دين أو جنس أو لون صاحب تلك النفس، التي جعل من أسهم على بقائها حية كأنه أحيا الناس كلهم أجمعين.
ومن هذا المنطلق يجب على كافة الأطباء والممارسين الصحيين بشكل عام أن يكونوا حافظين للأمانة قائمين بواجباتهم الدينية والإنسانية والمهنة تجاه المريض، وأن يجعلوا الله نصب أعنيهم، وألا يغلب على هذا التعامل مع المريض أي شيء آخر سواء كان هذا الشيء مادي أو معنوي أو غيره.
-وبكل أسف-نشهد هذا الزمن تغيراً مقلقا للمفاهيم التي ترتبط بمهنة الطب والتمريض فأصبح المريض هو المحور الذي يتمركز حوله الربح والعائد المادي، والذي من خلاله يكون الانطلاق نحو الثراء الفاحش، بصرف النظر عن أي مفهوم إنساني آخر.
وعملية إلحاق الضرر بمفهوم الإنسانية والرأفة والرحمة بالمريض فقيرا كان أو ميسور الحال أو حتى متنعم، مسألة بدأت تستشري وتستفحل في تعاملات بعض الأطباء، الذين حنثوا بيمين القسم الذي قطعوه على أنفسهم، فلم يراعوا في المريض إلا ولا ذمة، وأغفلوا حقوقه وحملوه فوق طاقته، وذلك إما بإيعاز من ملاك أو مديري بعض المنشآت الصحية الذين أعمى أعينهم الطمع والجشع، إم إن يكون لهم نصيب معلوم من أي دواء يصرف أو فحوصات تعطى أو عمليات تجرى للمريض، أما من جهة المنشأة التي يعملون بها، أو من جهة الشركات الموردة للأدوية أو مختبرات التحاليل أو شركات الأجهزة الطبية، وقد وجدوا بأن أقرب وأنسب طريق تؤدي إلى عالم الثراء، هو من خلال ذلك المريض المسكين الذي يثق بهم ويحسب أنهم أهل لذلك، وإذا ما أصابه المرض ذهب يبحث عن العافية داخل أروقة المنشآت الصحية الخاصة، وهو لا يعلم أنها في الحقيقة( بنوك ) في مسلاخ منشآت علاجية تقدم الرعاية الطبية في ظاهرها، لكن همها الوحيد هو رفع سعر الفاتورة إلى أن تصاب بالتخمة، جراء ما تحتويه من أصناف أكثرها لم يكن له أي حاجة أو ضرورة تذكر …
بعدها أيقن (البيشينت) المسكين أنه مذبوح (ماديا) من الوريد إلى الوريد، هذا إن أنجاه الله وأخرجه سليما من بين أيديهم تاما غير منقوص من أطرافه وأعضائه نتيجة لخطا طبي أو عاهة مستدامة تظل ترافقه مدى الحياة، لتكون له تعاسة أبدية.
نعم؛ لا ضير بأن تكون هناك منشآت صحية كثيرة ومتنوعة تضم بين جوانبها بعض أو جميع التخصصات الطبية، فذلك هو المطلوب، ولا يتعارض مع أي مبدأ تجاري أو استثماري، لكن أن يكون المريض هو من يدفع الثمن إما بتشخيص طبي خاطئ أو بخطأ طبي متعمد أو حتى غير مقصود بسبب الإهمال أو قلة التركيز، أو أن يعطى المريض فوق حاجته من التحاليل والإشاعات والأدوية … أكثر من مما هو محتاج إليه وكل ذلك من أجل أن يدفع أكثر ويتم استنزافه من بين يديه ومن خلفه.
يا معشر القوم من أصحاب المشافي والمستوصفات والصيدليات ومراكز النقاهة والعلاج الطبيعي وغيرها ممن تقدم الخدمات الصحية للمرضى، رفقاً بالأنفس العليلة المريضة والأرواح البائسة المتعبة، فلا تزيدون آلامهم الجسدية آلاما مالية مضنية، خذوا اليسير ولا تعسرون ا على الناس فليسوا كلهم أصحاب فضول أموال، فمنهم البائس الفقير المعدم، ومنهم ذو عيال يناضل من أجل توفير لقمة العيش لهم، وإن أغلبهم أصحاب دخل محدود، ومحدود جداً.
وأنتم يا أيها الكوادر الطبية، يا من تعملون تحت مظلة المدن الطبية والمستشفيات والمستوصفات الحكومية، اتقوا الله في عملكم وتعاملكم مع المرضى برحمة وإحسان، فإنكم محاسبون أمام الله أولا ثم أمام الدولة التي منحتكم تلك الوظائف لتكون مصدر دخل لكم، وأتاحت لكم فرصة الحصول على خدمة الوطن والمواطن، من خلال العناية بهذا المريض، وتوفير سبل العلاج له، حتى تعود له روح الحياة بأمر الله.
لقد تعالى بعضاً من الممارسين الصحيين إلى درجة خطيرة، فقدوا معها الإحساس بالمسؤولية، والتركيز الدقيق على واجباتهم تجاه المريض، فكثرت الأخطاء الطبية، وتفاقمت الحالات المرضية بسبب عدم التشخيص الدقيق لها، وظنوا أنهم بمعزل عن تلك الأفعال، فليحاسبوا ضمائرهم قبل أن يحاسبوا على إهمالهم وتقصيرهم في أداء واجبهم المنوط بهم، ألا وأن حساب اليوم الآخر أشد وأنكى.
وأبشركم بأن الخير لا يزال هو الأكثر، وأن أصحاب الأنفس الرحيمة من الممارسين الصحيين يشكلون الأغلبية في كل زمان ومكان.