بقلم الأستاذة / صالحة القحطاني
“يأتي الشتاء ومعه البركة وتحجب غيومه ذاكرة الصيف”
كان سبتمبر ثقيل ،وأكتوبر متعب ،ونوفمبر جداً حزين، وها قد حلّ علينا ديسمبر مسك الخواتيم ،وبدايات الليالي الطويلة، والولادة الجديدة، والمحاولات البِكر، وليالي السَّمر والأجواء الشاعرية والدافئة والحنونة ، ديسمبر شهر الشتاء ودفء الامنيات واللحظات المفعمة بالسلام والحنين.
يقول الأديب والشاعر رسول حمزاتوف في روايته داغستان بلدي 🙁 غنِّ إذا حلَّ الربيع واحك الحكايا إذا جاء الشتاء). ديسمبر يُعيد للأرض توازنها فتكتسي بالثلوج البيضاء وتبدأ المعاطف سرد حكاياتها الدافئة، ديسمبر يجيء ومعه شموعاً موقدة، ودفاتر بيضاء ليوقظ أملاً طال سباته ويُحيي الكلمات النائمة، ومشاعر الحنين والذكريات الكامنة كلها تختبئ خلف الشتاء، وخلف ثلوجه البيضاء ومعاطف البرد وارتعاشة يد ،ورِفَّة رِمش، وسماء مثقلة بالذكريات،أحدق في نوافذ الذكرى ،والمشاهد الصامتة، وفي الرسائل العتيقة، وزجاجة العطر الفارغة، وحدها من استطاعت الخلود فيّ رغم ضياع عناوين أصحابها، فتواسيني عصفورة الصباح وهي تغنَّي للمطر، وتُزقزقُ فرحاً بشروق شمس الصباح الخجولة خلف الغيوم، وعِناق السحب، واكتساح الريح الباردة للشوارع، وتناثر أوراق الأشجار الصفراء التي حملتها رياح الخريف اللافحة، وبداية ميلاد المطر على النوافذ، فأستشعر قدوم برد كانون الأول وأمطاره ليجعل من كل زواية في القرية لوحة فنَّية تنبُض بالحياة، يقول رسول حمزاتوف :”لاموسيقى أعذب من صوت المطر وخرير الغدير فأنت لاتمل أبداً من الإصغاء إلى صوت المياة الجارية والنظر إليها”ورائحة القهوة الزكيّة ،ورائحة مواقد النار التي تتسلل إلى قلبك في ليلة باردة ،والتفاف العائلة ورائحة الخبز في الأرجاء، والكستناء المشويَّ في ليالي الشتاء لصنع الأحاديث والحكايات والطرائف، ورائحة عطر العود في وشاح الأمهات ،ورائحة الأرض المبلَّلة بالندى والمطر .
ومع برودة ديسمبر يتولّد في قلوبنا دفء الأمل والفرح، ويصبح كل شيء ممكناً من جديد.
ديسمبر شهر النهايات والبدايات، بين الذكريات والأماني الجديدة.شهر الحنين والتطلّع لما هو أفضل،ديسمبر شهر الأحلام الكبيرة والتغييرات العميقة التي تحدث فينا، لنستقبل عاماً جديداً مليئاً بالأمل ،زاخراً بالجمال والفرص الجديدة ..
يقول المنفلوطي – رحمه الله تعالى – في هذه القصة: رأيتُ في أحد الأيام أنني أمشي في صحراء كبيرة، وإذ حلَّ الليل وجدت نفسي هناك وحيدًا وفقدت الأمل في النجاة وكأني بين فكّي جبل، وفجأة وجدت صخرة بيضاء تطير وهي أشبه إلى النسر، فعاد إليَّ الأمل واقتربت من السفح الثاني للجبل، وهناك رأيت أجمل مكان أراه في حياتي، ووجدت شيخًا فحدثته وأخذني إلى منزله، هناك وجدتهم يُصلُّون لله بخشوع، فسألتهم هل رأيتم الله؟ قالوا: رأيناه في مخلوقاته وإبداعه، سألتهم أين يذهب الإنسان بعد موته، فأخبروني إما للجحيم إن عمل شرًا، وإما للنعيم إن كان صالحًا، وأخذني الشيخ في جولة في المدينة، وعندما سألته أخبرني أن لا مدارس عندهم لأنهم يعلمون أطفالهم بأنفسهم، ويحكمون بينهم بالعدل، ويحترمون ويحبون بعضهم البعض، ثم عدنا إلى منزله ونمت، فاستيقظت لأجد نفسي في فراشي وأنا أقول هذه هي مدينة السعادة.
يأتي الشتاء ومعه البركة وتحجب غيومه ذاكرة الصيف يعكس هذا القول كيف أن ديسمبر، بكل برودته ينقلب على الذكريات الحارة ليحمل معه فرصة جديدة للصفاء الداخلي ..
في ديسمبر تقع الجمرات المشتعلة منطفئة على الأرض وتضج الذاكرة بذكريات ما قد مضى..
وتأكيداً على كيف أن ديسمبر لا يكون فقط عن الطقس البارد بل عن الحنين إلى الماضي والتأمل فيما مضى ..
الحنين كما هو شهر ديسمبر هو موطنك ..
خوليو إكليسياس