رحلة بين التحفظ والثقة 

بقلم/ 🖌️شهـــــد القحطاني

في عالم العلاقات الإنسانية، هناك شخصيات تتسم بالتحفظ والحذر الشديد، شخصيات تضع جدارًا سميكًا بينها وبين الآخرين، ممن يكوّنون حواجز عاطفية ،ليس بدافع التعالي أو التجاهل، غالبًا ما تكون هذه الحواجز نتيجة خيبات أمل متكررة أو تجارب ثقة ماضية مؤلمة خذلتهم أو صدمات نفسية جعلتهم أكثر تحفظاً وحذراً في التعامل مع الآخرين ، مما يدفعهم إلى الانعزال العاطفي كآلية دفاعية.

 

هذه الشخصيات قد تبدو بعيدة أو غير منفتحة، لكنها في الحقيقة تحمي نفسها من احتمالات التعرض للأذى مرة أخرى. حيث يؤمنون بأن الانفتاح المفرط قد يؤدي للخذلان،

 

ومع ذلك، يمكن كسب ثقة هؤلاء الأشخاص بمرور الوقت من خلال الصبر، التفهم، والاحترام المستمر لحدودهم، حيث يحتاجون إلى الأمان والطمأنينة ليتمكنوا من فتح قلوبهم مجددًا.

 

هناك شخصًا متحفظًا إلى أبعد الحدود. نشأ بطبيعته الهادئة في بيئة محافظة جعلته يضع حدودًا صارمة في علاقاته مع الآخرين ، لم يكن يثق بأحد بسهولة، بل وضع جدارًا سميكًا حول قلبه ومشاعره وحياته الشخصية ، كان لا يشارك أحدًا أسراره، ولا يسمح لأحد بعبور حدوده ،لكنه لم يندم، بل كان يرى في ذلك حماية لنفسه من الألم. ظنًا منه أن التحفظ والعزلة هما الوسيلة الوحيدة للحفاظ على نفسه من الخذلان.

دفعته هذه الشخصية إلى فقدان العديد من الأصدقاء، إذ كانوا يشعرون وكأنهم يقتربون من جدار لا يمكن تجاوزه، فيرحلون واحدًا تلو الآخر، غير قادرين على كسر صمته أو الوصول إلى أعماقه.

 

لكن الحياة لا تخلو من المفاجآت ،ففي إحدى مراحل حياته التقى بصديق مختلف تمامًا عن كل من عرفهم سابقًا.

بسيط لكنه صادق، امتلك قدرة نادرة على فهم الآخرين . استطاع بتصرفاته العفوية ومواقفه الداعمة، أن يزرع الثقة بمرور الوقت وأن يتجاوز الجدار الذي أحاط به المتحفظ نفسه. لم يكن الأمر سهلاً، لكنه أثبت أن هناك من يستحق الثقة.

شعرذلك الشخص المتحفظ بأن هذا الصديق بمثابة طوق نجاة، وكأن شخصيته التحفظية بدأت تتلاشى تحت تأثير هذا الشعور بالراحة والطمأنينة. شعر أن بإمكانه التحدث والبوح وبدأ يكشف شيئًا فشيئًا عن ماضيه، عن آلامه، وحتى عن لحظات ضعفه ، حتى أصبح الصديق الوحيد الذي عرف أسراره الدفينة، طفولته، أحزانه، وحتى مخاوفه التي كان يخفيها خلف قناع القوة. التي لم يجرؤ على مشاركتها مع أحد من قبل. كان يشعر بالأمان لأول مرة، وكأن الجدار الذي بناه بدأ يتلاشى، وسمح لصداقتهما بالنمو لتصبح رابطة أخوية حقيقية.

 

وفي منتصف الطريق فجأة، وبلا مقدمات، اختفى الصديق تمامًا من حياة هذا الشخص . وكأن الأرض ابتلعته دون أي تفسير. حاول البحث عنه بكل الطرق و تبرير الأمر: ربما يمر بظروف قاسية؟ ربما يحتاج وقتًا؟

لكن لا أثر له فبدأ الشك يتسلل لقلبه هل كان الصديق حقًا صادقًا؟ هل استغل ثقته؟ أم أن هناك سرًا أكبر؟

 

عاد الجدار الذي هدمه ليُبنى من جديد، لكن هذه المرة مع ألم أكبر. وعاد المتحفظ لأسئلته القديمة، لماذا رحل؟ هل كنت عبئًا؟ هل أخطأت حين وثقت؟ هل كان التحفظ في السابق هو القرار الصحيح؟

 

هذا الاختفاء المفاجئ ترك أثرًا عميقًا في نفسه فقد تعلم درساً قاسياً لكنه في الوقت نفسه أدرك أن الثقة ممكنة، وأن العزلة ليست الحل دائمًا. ربما رحل الصديق جسديًا، لكنه كان سببًا في تغيير نظرته للحياة والعلاقات، وعلّمه أن الألم جزء من تجربة النمو، وأن بعض الأشخاص يمرون في حياتنا ليتركوا أثرًا، حتى لو لم يكملوا الطريق معنا .

 

نفهم من هذا أن التحفظ قد يحمي، لكنه قد يسرق أيضًا أجمل التجارب الإنسانية، وأن الصداقات الحقيقية، حتى لو كانت عابرة، تظل محفورة في القلب.

و كوننا بشر مزيج من الخوف والرغبة في التواصل. قد نصاب بخيبات أمل، لكن ذلك لا يعني أن نغلق قلوبنا تمامًا. فالروابط الحقيقية، وإن كانت نادرة، تستحق المجازفة دومًا حتى وان انتهت بالفقدان .

شاهد أيضاً

نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام يتطوع ليكون مسؤول المالية

بقلم الكاتب/ عوض بن صليم القحطاني أشار القرآن الحكيم إلى نماذج من تطوع نبي الله …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com