
بقلم: د. سعيد بن عبدالله بن علي جفشر
عيدٌ بأيّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟
بِما مضى أم لأمرٍ فيك تجديدُ؟
أمّا الأحبّةُ فالبيداءُ دونهمُ،
فلَيت دونكَ بيدًا دونها بيدُ.
بيتان لأبي الطيب المتنبي، لطالما رددهما الكثيرون في يوم العيد، وكان والدي – رحمه الله رحمةً واسعة – من أولئك الذين يحملون في قلوبهم هذا المعنى، كلما أقبلت مناسبة العيد.
فالعيد، في جوهره، موسم فرح وسعادة، وحمدٌ لله على نعمه الظاهرة والباطنة، وشكرٌ له على التوفيق في الصيام والقيام والقربات، وكثرة الطاعات.
ولعلّ من أجمل ما قيل في هذا السياق، ما رُوي عن الخليفة الراشد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال في خطبة عيد الفطر:
“…واعْلَمُوا عبادَ اللهِ أنَّ أدنى ما للصائمين والصائمات أن يُناديهم ملكٌ في آخر يومٍ من شهر رمضان: أبشروا عبادَ الله، فقد غُفِرَ لكم ما سلفَ من ذنوبكم، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون.”
وفي المعنى ذاته، قال الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز في خطبته يوم عيد الفطر:
“أيها الناس، إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبَّل منكم.”
لكننا بشر، والنفس جُبلت على الحنين لكل ذكرى جميلة مرت، واستحضار خيالات الأحبة في مثل هذه اللحظات، لا سيما من غاب منهم أو رحل. فقد كنت أرى في والدي – رحمه الله – بوادر الحزن في ليالي العيد، ومع دخول رمضان، وفي لحظات الفرح.
وعندما أسأله، كان يستحضر أسماء أحبته واحدًا تلو الآخر: والديه، شقيقه، شقيقاته، أبناء عمومته، أساتذته، زملاءه، ومحبيه. ثم يلهج بالدعاء لهم، رحمهم الله جميعًا.
في ذلك الوقت، لم أكن أفهم عمق هذا الشعور، وربما رأيت فيه شيئًا من المبالغة، لكنني اليوم أجد نفسي في موضعه، أستحضر ذات المشاعر بعد أن فقدته، فأدركت أن العيد لا يكون عيدًا حين يغيب من كانوا سبب الفرح.
إنه استحضار مؤلم لذكرياتٍ لا تُنسى، وأسماءٍ لا تغيب عن البال، ومواقفَ لا تمحوها الأيام.
ومع أن العيد موسم للفرح، فإن هذه المشاعر تفرض حضورها دون استئذان.
فالفرح والحزن، الحياة والموت، الغنى والفقر – كلها أضدادٌ تتقاطع في حياة الإنسان.
ولعلّ دوام الفرح يجلب الملل، وامتداد الحزن يرهق النفس، لكن هذه المشاعر تثور، ولا يملك الإنسان لها دفعًا.
هذا المعنى الإنساني العميق لم يغب عن الشعراء؛ فقد جارى عددٌ منهم المتنبي في رؤيته الحزينة للعيد.
ومن الشعراء الذين تجلّت فيهم مرارة العيد في غياب الأُنس والمُلك، المعتمد بن عباد، أحد أعظم ملوك الطوائف في الأندلس، وحاكم إشبيلية حين كانت منارة للحضارة والعلم والشعر.
أسره المرابطون بعد أن نُزِع عنه تاجه وسُلبت مملكته على يد يوسف بن تاشفين، فنُفي إلى أغمات. وهناك، في غربته وذُلّه، تذكّر أعياده الماضية حين كان موفور المجد والمُلك، وأخذ يُقارنها بواقعه المُرّ وهو خلف القضبان، فقال:
فيما مضى كنتَ في الأعيادِ مسرورًا
وكان عيدُك باللذاتِ معمورًا
وكنتَ تحسب أن العيدَ مسعدةٌ
فساءك العيدُ في أغماتَ مأسورًا
أما أبو فراس الحمداني، فكان من أولئك الذين كتبوا ألم العيد من عمق التجربة، لا من خيال الشعر.
أسره الروم عام 347هـ في إحدى المعارك، فذاق مرارة الغربة والأسر، وباح بشجنه في أبياتٍ جسّدت حال من يُباغته العيد وهو مفجوع بالبعد عن الأحبة، فقال:
يا عيدُ، ما عُدتَ بمحبوبِ
على مُعنّى القلبِ مكروبِ
يا عيدُ، قد عُدتَ على ناظرٍ
عن كلّ حُسنٍ فيك محجوبِ
لكن في المقابل، هناك مظاهر للفرح والسرور في العيد، وإن كان رصدي وجمعي للشواهد الإيجابية لم يكن بكثرة شواهد الألم والحزن، إلا أنني اكتفيت بما أوردت حتى لا أثقل على القارئ، ولا أدعم نظرة التشاؤم والحزن، فنحن في عيد سعادة. وربما أتناول هذا الجانب في مقال قادم.
ومن الشعراء الذين تناولوا العيد بإيجابية، وتغنّوا بمظاهره، أمير الشعراء أحمد شوقي، إذ قال:
العيدُ هلّل في ذُراك وكبّرا
وسعى إليك يزفّ تهنئةَ الورى
وكذلك الشاعر أحمد زكي أبو شادي، الذي قال:
الفطرُ جاء بآمالٍ نُجدّدها
إن الحياةَ لآمالٍ وتجديدِ
لولا التعلّقُ بالآمالِ نعبدُها
لم يُكرم العيدُ، بل لم يُعرف العيدُ
وقد صدق، فوالله، لولا الأمل ما استطعنا أن نواصل الحياة، ولا أن نُؤنس وحدتنا بصحبة حبيب، أو نستشعر لذة فرحة، أو نحتفي ببهجة عيد.
فالأمل هو النور الخفي الذي يُنعش أرواحنا، ويمنح لحظاتنا معنى، ويُلبس أيامنا ثوب الرجاء في غدٍ أجمل.
ونحن في هذه البلاد المباركة، لا نقول إلا ما نراه ونحياه: إن للعيد هنا طعمًا خاصًا، ومذاقًا مختلفًا، في ظل أمنٍ وأمان، ورغدٍ وازدهار، تحت راية رشيدة يقودها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله ورعاهما، وأيّدهما بنصره.
وما أجمل أن نعيش أفراحنا، ونهنئ قيادتنا وإخواننا في هذا الوطن الغالي، ونحن لا ننسى إخواننا في بقاعٍ من الأرض يعانون الألم والشتات، فندعو لهم بالفرج والنصر، ونستشعر آلامهم.
نسأل الله أن يحفظ لنا وطننا، وقيادتنا، وأمننا، وأن يرحم من غاب من أحبابنا في هذا العيد.
فالذكريات تعود، وقُبُلاتهم وملامحهم، رغم الفراق، تسكن القلب،
والضحكات يتردّد صداها عبر زمنٍ مضى… ولن يعود.
رحمهم الله جميعًا،
وكل عام وأنتم بخير، وبسعادة، وبعزّ، وبأمنٍ وتوفيق.
عسير صحيفة عسير الإلكترونية