العيد في ذاكرة الشعر الشعبي

بقلم: د. سعيد بن عبدالله بن علي جفشر

في مقالٍ سابق بعنوان “عيدٌ بأيّة حالٍ عُدتَ يا عيد؟” تناولنا ما قاله شعراء الفصحى من ملوك وأمراء وفرسان وأدباء، وكيف عبّروا عن مشاعر الحزن والفرح تجاه العيد، فكان شعرهم مرآةً صافية لما يختلج في صدور الناس من مشاعر متباينة في هذه المناسبة.

وفي هذا المقال، نسلّط الضوء على الشعر الشعبي، لأنه الأقرب إلى عامة الناس، والأكثر تعبيرًا عن مشاعرهم الحقيقية، بلغة قريبة من أفواههم، وبصدق يخرج من قلوبهم دون تكلّف ولا تصنّع.

 

في وجدان الإنسان العربي، لم يكن العيد مجرد مناسبة دينية أو طقس اجتماعي عابر، بل كان وما زال لحظة مشحونة بالمشاعر المتقلبة، يتقاطع فيها الفرح بالحزن، واللقاء بالغياب، والطمأنينة بالحنين.

والشعر الشعبي ظلّ شاهدًا على هذه اللحظات، وصوّرها بوضوح مذهل، وبأسلوب يجعل من يقرأه أو يسمعه يشعر أن الشاعر ينطق بما في نفسه تمامًا. لقد عانيت في كتابه هذا المقال الا أني كتبته بروح المؤرخ لجانب مهم في حياة الانسان الاجتماعية وليس كمتخصص في اللغة العربية وآدابها وأتمنى أن أصل إلى ذائقة المتلقي الكريم في عرض أمثله لتجارب شعراء من المملكة العربية السعودية ومن دول شبة الجزيرة العربية في التاريخ الحديث و المعاصر لنعكس جانب مهم من حياة المجتمع العربي مستعرضين لنتاج عدد من الشعراء والشاعرات كنماذج ترمز الى بحر واسع وعميق في التاريخ الاجتماعي

 

فمن هذه الأصوات التي صدحت بأبيات شعرية عبّرت عن هذه المشاعر في ذكرى العيد، ما قاله الشاعر سعد آل جفشر، الذي رثى والده في أبياتٍ تقطر وجعًا وحنينًا، فقال:

 

يا شينها .. غالي ولا عاد تقدر تجيه

والفرحة اللي تجرّ الحزن .. يا شينها

الابتسامات .. ما تركب في بعض الوجيه

إذا الحزن صار واقف بينك وبينها

العيد وينه؟! وأنا باقي هناك أحتريه

الفرحة .. الصدق: مدري ويني ووينها

 

ثم لخّص وجعه في بيت واحد قال فيه:

 

العيد والله عيد يوم أنت باقي

وإلا بعدك العيد ما غير تلفيق

 

وهكذا تصبح كل مظاهر الفرح مجرّد تمثيل، حين يغيب من كان العيد لا يكتمل إلا بوجوده.

 

وفي مشهد آخر لا يقل وجعًا، يبثّ الشاعر صنيتان المطيري شكواه من عيدٍ لم يجد له مكانًا في قلبه، فقال:

 

يا عيد مالك نظرة في عيوني

نسيتني؟ مدري زماني نساني

ما قدرت أفراحك تعانق شجوني

أحزاني أكبر من كلام التهاني

ومن قلب الغربة، كتب شاعر يمني لا يحضرني للأسف أسمه أبياتًا تمثّل أنين المشتاقين لأوطانهم وأهلهم في ليلة العيد:

 

اللّيلة العيد وأنا من بلادي بعيد

ما في فؤادي لطوفان الحزن من مزيد

قلبي بوادي بنا وأبين ووادي زبيد

هايم وقلبي أسير الغربة القاسية

 

أما محمد بن سعيد المسعودي، فكانت له نظرة مختلفة حين قال:

 

قالوا: البس لك ثيابٍ جديدة

اليوم يوم العيد طربات وأفراح

قلت: الطرب للي حياته سعيدة

ولا جرحه من البيض جراح

 

فهناك من لا يجد في مظاهر العيد ما يُبهجه، لأن قلبه غارق في جراح لا يراها الناس.

 

وفي موقف مشابه، يروي الشاعر طامي بن سحيم آل سلعان خيبته يوم العيد حين سافر باحثًا عن الفرح، فعاد بالحزن:

 

نهار الخميس معيّدين وأنا زهقان

إلا واهني اللي بعيده تهنّى به

يا ليتني ما جيتكم يا أهل الريّان

بغيت الطرب، واقفيت بالحزن كَسّابه

 

ومن الحزن إلى نبرة الدعاء بأن يحكم البلاد سلطان عادل هنا ينقلنا صالح بن سمره اليامي بأبياته التي تمسّ القلب:

 

عيد يا عوّاد عدّها على اللي عاد ودي به

والردي جعله من الله حثيث الموت عزراني

يا الله يا مطلوب، جعل الحسد ما ينزل الديرة

وإن نزل فيها الحسد يا الله تملكها بسلطاني

 

وقد تحقق له ما تمنى و سأل الله إياه حيث حكمت البلاد من قبل سلطان عادل و إمام حق وهو الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله رحمة واسعه

ويُذكر في الذاكرة الشفهية أن جلالة الملك عبدالعزيز – رحمه الله – حين بلغه هذا البيت، قال:

“قولوا له يدق طنبه في الأمان، وأنا أخو نورة.”

 

أما محمد فطيس المري، فكتب عن العيد حين يغيب من نحب، فقال:

 

العيد ذا جزءٍ من العيد مفقود

معيّد وطيّب ولاني بطيّب

على وليفٍ دونه احداد وحدود

فرقاه خلّتهم يقولون شيّب

متى تشوف عيوني عيونه السود

وواجهه واعايده من قريّب

 

مشاعر مركّبة تختصر حال كثيرين في أيام العيد، حين تصبح المناسبة ذكرى مؤلمة بدلًا من فرحة منتظرة.

 

وختامًا مع سعد بن جدلان، الذي خاطب العيد بخيبة واضحة:

 

علامك يا نهار العيد في عيني سماك غبار

وشمس العيد لو تكسف نهار العيد معذوره

وحنا سارحينك من صباحك يا نهار جهار

لو إنها في ظهر ولا عصر كسفتك معذوره

وأشوفك خاطر في خاطري من حيرة الخطار

تقبلك الجوارح شرّع البيبان مسروره

 

وفي نهاية هذا السياق، لا يمكن تجاوز الأصوات النسائية التي حملت وجعًا خالصًا، وانفردت بصدق عاطفتها وعفوية عباراتها، فكانت الشاعرات الشعبيات تجسيدًا حيًا للأم الثكلى، والزوجة المكلومة، والبنت التي رحل سندها.

 

فـزهرة بنت علي بن دشيل العنابس، عبّرت عن حزنها العميق في فقد ولدها ليلة العيد فقالت:

 

العيد مالي به، ولاني بُوياه

تكحّلوا يا لابسات الخلاخيل

يا مَن لعينٍ تنثر الدمع دماه

راح النظر من عقب زُحْل الرجاجيل

 

وكذلك بخوت المريّة، التي كتبت من قلب الوحدة أبيات رددها الكثير في تراثنا الثقافي الشعبي وهي :

 

عيدوا بي في الخلاء والفريق معيدين

كل عذراء نقشت بالخضاب كفوفها

ول يا ذا العود ما ترحم القلب الحزين

جعل ذودك في نحى القوم وانت تشوفها

 

تجارب هؤلاء الشاعرات تستحق التوقف، فهي تفيض صدقًا، وتخلو من التزيين أو المجاملة. في أبياتهن يُختزل الوجع الإنساني بأصفى صوره، فهنّ لم يكتبن شعرًا ليتفاخرن، بل ليقلن للعالم: نحن نتألم.

 

وما ورد في هذا المقال من شواهد، ما هو إلا نزر يسير من بحر واسعٍ من القصائد، التي حفظت في صدور الناس، أو توارثتها المجالس، أو علقت في الذاكرة الشفوية، لتُخبرنا أن العيد في الشعر الشعبي لم يكن يومًا مناسبة شكلية، بل لحظة حقيقية تعكس صدق المشاعر كما هي.

 

فالشعر الشعبي هو ترجمة حية لنبض الإنسان، لا يزيّف المشاعر، ولا يتجمّل بالحروف، بل يقول الأشياء كما هي، بحزنها وفرحها، بقسوتها ورقتها، بجمالها ووجعها.

ومن هنا، فإن كل بيتٍ من أبيات العيد، سواءً قاله شاعر كبير أو امرأة بسيطة، هو صفحة من ذاكرة المجتمع، وشهادة على أن الإنسان في هذه البلاد – مهما بلغ من الرضا أو الحزن – لا يبخل بالبوح، ولا يضنّ بالمشاعر، إذا ما شعر أن الشعر سيحملها عنه.

رحم الله من رحل، وطيّب الله قلوب من بقي، وكل عام وقلوبكم بخير، وإن غابت بعض الوجوه.

شاهد أيضاً

نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام يتطوع ليكون مسؤول المالية

بقلم الكاتب/ عوض بن صليم القحطاني أشار القرآن الحكيم إلى نماذج من تطوع نبي الله …

تعليق واحد

  1. محمد حامد الجحدلي

    توثيق تاريخي لما قاله الشعراء في الموروث الشعري الأصيل للكاتب الصحفي المبدع الدكتور سعيد عبدالله علي بن جفشر في صياغة أدبية تستحق القراءة والمتابعة والتعليق.
    وحين تكون الإشادة بحجم مقال صحفي توثيقي لكاتب متمكن واسع الإطلاع فإن ذلك يعكس ثقافة الكاتب وعمق التجربة الصحفية التي يجيدها وتعد مرجعا وأطروحة تاريخية تناولت أهم محتوى اشتهر به الموروث الحضاري بعدد من اللهجات المحلية بإتساع مساحة المملكة وتعدد الثقافات في كل منطقة ومدى تمسك المجتمع السعودي بهذه القيم المتوارثة والتعبير عنها بأسلوب ممتع في المناسبات والأعياد.
    وأنتهز هذه الفرصة لأهنئي الزميل الكاتب الدكتور سعيد عبدالله علي جفشر متمنيا أن يتحفنا في تسليط الضوء على الموروث الشعري الأصيل ولاسيما في منطقة عسير مع أطيب تحياتي وتقديري.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com