“ثلاثة أبو الهول” لدالي… تساؤلات تنبت من قلب الأرض

بقلم: أفراح حزام القحطاني

نتوقّف أمام اللوحة كما لو أننا أمام لغز بصري يستحق التأمل، نمنح أعيننا وقلبنا فرصة للتوغل في التفاصيل، نحاول أن نفصل أنفسنا عن الضوضاء الخارجية ونغوص في فضاء العمل، حاملين معنا الخيال، وشيئًا من الصبر.

لوحة سلفادور دالي “ثلاثة أبو الهول في جزر البكيني”، التي أُنجزت عام 1947، تُقدّم مشهدًا طبيعيًا للوهلة الأولى: سهل، وجبال، وأشجار تتناثر في فضاء الخلفية. لكن عند التمحيص، نكتشف أن ما يبدو كشجرة ضخمة في منتصف اللوحة، هو أيضًا رأس إنسان من الخلف، بشعر مجعّد، يتكرر المشهد ذاته في موضع آخر من اللوحة برأس آخر يبدو أيضاً شجرة من الخلف. ثم، في الأفق البعيد، تظهر شجرة بيضاء صغيرة، هي الأخرى على هيئة رأس بشري.

ثلاث رؤوس – أو أشجار – تنبت من الأرض، كأنها تنطق من صمت الطبيعة. الألوان دافئة، والإضاءة ناعمة، تخلق أجواءً تشبه الحلم، أو ما يُمكن أن نسميه “اللاوعي البصري”.

هذه اللوحة لا تُقدّم أجوبة، بل تثير سلسلة من الأسئلة؛ كالتالي:
– هل هذه الرؤوس تمثل أشخاصًا أم مجرد تجسيد فني للطبيعة؟
– هل أراد دالي القول إن الطبيعة تُشبه الإنسان أو تحاكيه؟
– ما علاقة هذه الكائنات الثلاثة ببعضها؟
– هل من رسالة خفية خلف هذا المشهد السريالي الغامض؟
للإجابة، لا بد أن نعود إلى السياق التاريخي للوحة. فقد رسمها دالي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا بعد التجارب النووية التي قامت بها الولايات المتحدة في جزيرة بيكيني المرجانية، والتي خلّفت تلوثًا إشعاعيًا كارثيًا.

عنوان اللوحة نفسه – “ثلاثة أبو الهول في جزر البكيني” – يُشكّل مفتاحًا لفهم العمل. فـ”أبو الهول”، هذا الكائن الأسطوري الغامض، يعيدنا إلى فكرة الألغاز والأسئلة. أما العناصر الرئيسة الثلاثة التي تمثلها الرؤوس، فهي: الإنسان (الرأس البشري)، الطبيعة (الشجرة)، وسحابة الفطر النووي التي ترمز إلى الدمار الشامل

من خلال هذا المشهد، يبدو أن دالي يقدّم تراجيديا بصرية: الطبيعة والإنسان والدمار، في تكوين واحد. كأنه يقول إن هذه الكيانات الثلاثة، التي تتقاطع وتتشابه، قد توحدت في مصير مشترك بسبب التجربة النووية، حيث لا ينجو أحد.

العمل مشبع بالرموز، غني بالثنائيات: شجرة/رأس، وجه/طبيعة، فطر/تمثال. هذا التداخل المتقن يجعلنا نعيد النظر أكثر من مرة، لنكتشف في كل مرة تفصيلاً جديدًا، أو ربما سؤالاً لم نفكر فيه من قبل.
ختامًا، تظل هذه اللوحة واحدة من أبرز أعمال دالي التي تمزج بين الحلم والواقع، بين الجمال والفاجعة، وتستمر في إثارة الدهشة بعد مرور عقود. عملٌ يجعل من السريالية وسيلة لفهم ما لا يمكن تفسيره، ومن الفن صرخة إنسانية ضد العبثية والدمار.

(((زاوية قراءة فنية)))
إشراف أستاذ الآثار والفنون الإسلامية بجامعة الملك خالد، ومدير الجمعية السعودية للفنون التشكيلية بعسير
الدكتور علي مرزوق

شاهد أيضاً

حقوق الإنسان

بقلم / سمية محمد  يتمتع الإنسان بحقوق أساسية و متأصلة لمجرد كونه إنسان هي جزء …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com