من منا لا يحلم أن يسافر، ومن الذي لا يريد أن يتزوج، ومن يأتي ليقنعني بأنه لا يحلم أن يركب سيارة فارهة، وكيف نتخيل نفسية شاب اعتاد أن ينام بعد الفجر – زمناً طويلاً – ليستيقظ عند المغرب ومن ثم يبدأ مشوار اللف والدوران – في الشوارع طبعاً – وفق روتين ممل؟ سألت شاباً في مقتبل العمر، والطموحات عن جدوله اليومي، وأنا الذي اعرف انه بلا وظيفة منذ أكثر من ثلاث سنين، فسرد عليّ جدولاً متشابهاً متطابقاً لا فرق فيه بين سبت، وأربعاء، مع بروز طفيف ليوم الجمعة لحرص والده المتكرر على أداء الصلاة في المسجد القريب وهنا يكمن الفارق.
سألته مرة أخرى عن ماذا يعمل؟ وأين يهدر كل هذا الجسد، والطاقة الكبيرة التي يحملها؟ مع علمي السابق ببطالته، ليبادرني بقوله: كما ترى عينك «بندق وطن»، وهذا مصطلح شعبي جنوبي يدل على انه ثابت في المكان لا يتحرك، حينها أدركت كم من «بنادق وطن» – على حد التعبير – لا تزال تنتظر حلمها المتمثل في وظيفة مقنعة، تفي بمتطلبات حياة باتت أكثر صعوبة، وكم أيضاً من هذه «البنادق» كان باستطاعتنا أن نحيلها إلى لبنات عملاقة، تصبو لتحقيق أحلام طالما صيغت من أجلها القصص والحكايات وتتبلور إلى حقيقة، مع هذا تخيلت كيف لهذه الوجوه الحالمة، أن تشيح بوجوهها عن وسط تركيبة اجتماعية لم تسهم حتى بدعاء، أو وجاهة، بل هي – كالمعتاد – ناقدة لا ترحم في الأصل، وترى أن كل الرجال لابد أن يشكلوا فيها عصب الحياة وبنية الأحياء بكل ما فيها من شيم وقيم وتناست أن الحياة غير الحياة، والأحياء لم تعد تلك الأحياء، وكذلك الرجال ليسوا هم الرجال.
كيف للتركيبة التي تضم ذواتاً إنسانية منها تناسي حالات الحزن التي تتلبسهم، وانكسارات الأسى تلك التي لم تبرحهم، وترمي بهم أحياناً وأحياناً كثيرة في مزالق لا يخرجون منها، وإن خرجوا عادوا إلى المجتمع ذاته ليرفضهم رفضاً قاطعاً، وحينها هم بين أمرين إما الصبر على الواقع، وما أقسى الصبر، أو العودة إلى المنزلق بأكثر تخطيط واحترافية لكي لا يكون البقاء أبدياً، أحلم أن أشاهد وجهاً اجتماعياً معروفاً داخل حي أو في مدينة، يشفع بجاهه، ووجاهته لشباب من حوله يتوسم فيهم الصلاح ويجد فيهم أملاً ولا يقف دونهم إلا الحصول على فرصة واعني شفاعة تليق طموحاً ومستقبلاً وتؤكل عيشاً.
أحلم أن تبادر مؤسسات عملاقة بمنح وظائف لشباب مبدعين أو بارزين على خريطة مجتمعهم في أي مجال وتضم كل هذه الكوادر المعطلة، ولتجرب وأنا متأكد من أنها لم تجرب، لماذا لا تضع القنوات التلفزيونية تلك التي تبادر بمسابقات متكررة في السنة لإدراج وظائف – بحسب علاقاتها – ضمن جوائزها وهي ستصل إلى ما تريد وستستقر في القلب والذاكرة عبر أكثر من أسرة وأكثر من جيل، ولكن بطريقة أكثر نفعاً، وتسهم إسهاماً حقيقياً في تقليص حجم مآسٍ تحدث ونحن نضع اليد فوق الأخرى إنما لا نزال في دوائر القراءة والتأسف، ومربعات المشاهدة والتحسف.
لا أعتقد أنه من الصعب إعلان مؤسساتنا الحكومية عن وظائفها السنوية أمام الملأ وطرحها في مسابقات وظيفية وليكن المستحق في مكانه نيابة عن أن نأتي بواحد من الخلف، وقائمة الانتظار مليئة بالطموحين المحبطين، ولنعرف أن بمجتمعي «بنادق وطن» كثيرة، منها ما هو صامد صابر نحو انتظار الفرج، ومنها ما هو رقم سهل متغير لمعضلات اجتماعية كبيرة، ودخل ثابت للترويج لمسكر أو مخدر وهذه الكارثة!