لا تدري كيف أن الطائرة الجديدة قد أقلعت في غفلة، وكالحلم نتذكر كيف أن الركاب كانوا متحفزين مصطفين بكل أناقة ورقي في صالة المطار، وكانت فرحتهم طاغية بتوجههم إلى تركيا المسلمة الديمقراطية، قبل أن يكتشفوا أثناء الطيران بأن الطيار كان يرتدي قناعاً يخفي حقيقته، وأنه لم يدرس الطيران أصلاً، وأنه لم يكن ينوي من الأساس الذهاب لتركيا، وأن برج المراقبة كان يقوده لوجهة مجهولة، وأن الطاقم الجوي ليس إلا مجموعة من المزيفين ممن لم يعملوا في الجو قبل اليوم.
لقد أوجس الركاب بعد ركوبهم خيفة، ولكن لا مجال للتراجع، فالتذاكر دفعت، والطيارة الآن تعانق عنان كبد السماء، وأمر قدرة الكابتن على إنزال الطائرة أصبح مجرد أمنية.
وتزداد المطبات الهوائية، ويتعالى اللغط في أروقة الطائرة، والبروق تلمع بين الغيوم الكثيفة، والتعليمات تنتقل سراً بين الطاقم بأن تتحول الرحلة قسراً إلى أفغانستان، وإن تعثر ذلك فسيكون البديل الصومال!
وتستمر الفوضى، وتزداد التكهنات، والرعب، وتتكاثر التخمينات بين الركاب المختطفين.
وهذا هو للأسف ملخص حال الشعب المصري، بعد ثورته الربيعية، التي ملأته بوادرها بالطموح، عند ولادتها في مهد (ميدان التحرير)، ورؤيتها للشمس على أيدي شبابها الواعد، وتعليمها النطق بحروف أفكارهم وعقولهم النيرة. كل ذلك كان قبل أن تختطف الطائرة براكبيها من قبل الإخوان المسلمين في ليل مظلم.
لقد كانت نيات أبناء الثورة خضراء، وقلوبهم شفافة، وطموحاتهم تشعل الشموس في فضاء مظلم. فلم يكونوا ليرضوا بغير العدل والحرية للجميع، وكل ذلك قبل أن تصبغ الملابس، وتوزع الأقنعة، ويعاد برمجة الأهداف، ويتم خطف الطائرة بما حملت.
الخاطفون استغلوا طيبة غالبية الشعب، فركزوا أثناء بيع التذاكر على الأحياء الفقيرة، والمدن الصغيرة، والأرياف، وخادعوا النساء ممن حرمن من التعليم، ومن غير العاملات. كلهم اشتروا التذاكر دون تفكير لشعورهم بأن في ذلك رضى الرب عنهم.
وللأسف فإن فئة المثقفين قد ضيعوا البوصلة حينها، وداخلتهم لعنة كلعنة الفراعنة، جعلت الأنا تتضخم في أنفسهم، فلم يحسبوا حساباً لخطورة، ولم يتحدوا، بل تشتتوا، وتناحروا، وتعاظمت خلافاتهم، مما أدى للوضع الحالي، الذي فرضه الواقع، ولا مجال لتبديله، على الأقل لفترة الرحلة الحالية.
الوضع السوداوي قائم، وعلى المتضرر أن يعض أيادي الندم، لأن القضاء لا يملك له حلاً، وأي محاولة لتغيير الواقع القائم سينتج عنها ما لا تحمد عقباه، فالنظام الإخواني غرس جذوره في الجباه، وتماسكت أغصانه، وتسلق، ونثر أشواكه في الأحداق، وبسرعة البرق سيطر على الشاشات وعلى أبواق الإعلام، والمراكز الحساسة في الدولة، بين غفلة المسافرين، وغموض وخطورة المسار.
و«تشعبط« بعض الأشرار على الجناح الشرقي (السيناوي)، ليشغلوا الركاب عما يحدث في الكابينة.
مصر ليست بلداً صناعية، ولا هي بالتجارية، وليست بالطبع زراعية لدرجة أن يكون محصولها كافياً لتأمين جميع تطلعات هذا الشعب العريض المستقبيلة. وهي بلد تعتمد أساساً على موقعها الاستراتيجي، وقدرتها الإعلامية، والسياحية، والثقافية من تراث وفنون وآداب، ولكن التوجه الإخواني فيها يهمش كل تلك المزايا، بل ربما يقوم بمحوها كلياً، مما سيعرض البلد للأزمات والتشتت والفقر والانزواء، وهذا لم يكن شأن مصر طوال التاريخ، فقد كانت مجمعاً كونياً للمعارف والأجناس والأديان والعقائد بكل أطيافها دون تمييز، وكان زوارها من شتى الأمم يشعرون بأنهم في بلدهم الثاني، ولم تكن يوماً منطقة إرهاب فكري، ولا اجتماعي ولا إبداعي.
الوضع غاية بالخطورة، ليس على مستوى مصر فقط، بل على مستوى الشرق الأوسط، لأنها مركز ثقل سياسي استراتيجي، ولأنها كانت متعادلة تمسك العصا من المنتصف، فتمتص القلاقل والدسائس والمحن في المنطقة. وكانت مؤشر توازن مختلط، يثق بكلمتها الغربي، واليهودي، والقبطي، والخليجي، والعربي، والإيراني، وأي تخلخل بموازينها قد يوصلنا إلى محنة.
التقارب مع إيران خطير، وإن كان مجرد تقارب فكري، إلا أنه يجعل المنطقة على كفوف عفاريت ألف ليلة وليلة الفارسيين.
الخلاف مع إسرائيل، ونقض العهود المبرمة، سيعيدنا لفترة ما بعد النكسة، وربما تتدخل الدول العظمى لحماية إسرائيل، فنصبح مشتتين ضائعين بين الحدود والأسلاك الشائكة، والتفجيرات العشوائية.
خبرة الإخوان وليدة صدفة في اعتلاء كراسي الحكم، وفترتهم ستكون مليئة بالتجارب القاسية، وتُقيتهم آفة، ونيتهم على كتم أصوات الإعلام الحرة أزمة، وحرمان الأقباط تدريجياً من حقوقهم مغبة فتنة أهلية، وتشريع القانون الأحادي في بلد متعدد الأطياف، ينبئ بأن الكارثة وشيكة.>
شاهد أيضاً
الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة
صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل : انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …