لي صديق يريد – منذ عامين – أن يصدر ديوانه الأول، وكل أسبوع يبتكر عنوانا ثم يشاورني فيه، وسواء أبديت له إعجابي بالعنوان، أم أبديت امتعاضي، فإنه يأتيني في الأسبوع الذي يليه بعنوان آخر، وكأن العنوان هو الديوان كله.
فعلُ صديقي جعلني أتأمل فيما آلت إليه العنونة في العصر الحديث من أهمية، بعد أن كانت مما لا يُهتم به، لكن الأدباء المعاصرين صاروا يحارون في عناوين نصوصهم ودواوينهم، ويهتمون بها اهتماما يفوق اهتمامهم بالنصوص نفسها، ما يعني أن العنوان يعني لهم الكثير، لإدراكهم ما يعنيه بالنسبة إلى المتلقي، حتى بات العنوان هاجساً يساوي في قلقه قلق إنشاء القصيدة نفسها، إن لم يفقه، لأنه صار عنصرا عضويا في القصيدة، وركنا رئيسا من أركانها؛ ذلك أنه صار نظيرا بطاقة التعريف بها، بعد أن كان القدماء يعرفون القصائد ذات القيمة الفنية العالية، ويعرفونها من خلال وصفها، سواء أكان هذا الوصف مستمدا من قافيتها، أم من جزء من المطلع، أم من حكم انطباعي ناجم عن الإعجاب؛ فيقولون مثلا: “لامية العرب، وبائية أبي تمام، وسينية البحتري”، عند عنونة القصيدة اعتمادا على قافيتها، ويقولون: “بانت سعاد، ويا ليل الصب”، عند عنونة القصيدة بأول لفظتين من مطلعها، ويقولون: “سمط الدهر، والفاضحة، والدامغة”، عند عنونة القصيدة بوصف يدل على الإعجاب بها.
والحق أن هذه العنوانات أو الأسماء أو الأوصاف أو الألقاب، لم تكن من صنع الشاعر نفسه، وإنما هي من صنع المتلقين أو النقاد، مما يجعلها خارج العملية الإبداعية، وخارج إطار النص.
والناظر في تاريخ العنونة التي يصنعها الشاعر نفسه، في الشعر العربي، يلحظ أن الوصول إلى الاهتمام بالعنوانات كان عبر تدرج تاريخي أفضى – في العصر الحديث – إلى أن أصبح العنوان جزءا من القصيدة، وركنا مهما من أركانها.
وعلى الرغم من كون عنْونة الدواوين قد بدأت عند العرب منذ القرن الخامس الهجري، إلا أن الوعي بمفهوم العنوان بوصفه جزءا من النص الأدبي، واختزالا لمضمونه، وجاذبا إليه، لم يكتمل – عند العرب – إلا بعد الاطلاع على التجارب الأدبية الغربية، فضلا عن الاطلاع على الدراسات الغربية التي ترى في العنوان أهم “العتبات” النصية، ودليل ذلك أن بعض شعراء العصر الحديث، ومنهم شعراء سعوديون – في الفترة المبكرة من العهد السّعودي – لم يكونوا يهتمون بعنونة قصائدهم، وإن وضعت فئة منهم عنوانات فهي عنونة للتسمية وحسب، ثم تطورت العنونة، عند الشعراء السعوديين، وتجاوزت الاختيارات العشوائية، إلى أن أصبحت لا تأتي إلا بعد إطالة النظر، والتأمل في الأثر المتوقع.
>
شاهد أيضاً
مجلس الشورى يعقد جلسته العادية الخامسة من أعمال السنة الثانية للدورة التاسعة
صحيفة عسير ــ واس عقد مجلس الشورى اليوم الاثنين، جلسته العادية الخامسة من أعمال السنة …
عسير صحيفة عسير الإلكترونية