خُطباءُ الكُرْه..

جمعة مباركة.. اعتدنا على هذه الجملة من الأحبة الجميلين بعد صلاة الجمعة.. لكن الأستاذ محمد المقصودي أرسل إلي ما يلي: لم أسمعْ خطيبا أو واعظا إلا مرددا: (اللهم أبعدْ عناَ الزلازل والمحن، عن بلادنا وبلاد المسلمين عامة..)! أهُناك مشكلة عقديّة لو أنه أضاف لعبارته هذه (وعن البشرية جمعاء)؟ هكذا أرى أننا ما زلنا نعيش الحياة بهدف إقصاء الآخرين، أو لِنَقُلْ: لهلاكهم، هذا ما يبدو لي من خطابنا الديني، وعلى المتلقي أن يردد: آآآمين وجمعتك إنسانية.. أ . هـ كلامه.

وأقول له: أولئك ليسوا بخطباء، فالخطيب عند العـرب ليس بالحافظـة الذي يردد محفوظات جوفـاء بلا روح، لقد كان لسان حال واقعه في الحدثِ أو في الوعظ أو حتى ضدهما.. إنهم أناس حفَظةٌ طيبون لا ذنب لهم لأنهم لا يفقهون ما يحفظونه! هم أتـوا نتيجةً لما غرسـناه فيهم فحفظـوه وأجادوا الحفظ ولم يتساءلوا أو يفقهوا أنّ لكل مقام مقالا.. إنهم يشعرون بضرورة أدائهم وظيفةً نحنُ من أطَّرها لهم، ونحن من حدَّدَ لهم مفهوم الإسلام على أنه عاداتنا وقيمنا الاجتماعية المتوارثة وليس قانون حب ورحمة كونياّ.. ومن أجل هذا فمن خالف هذه العادات لعنوه بدلا عن الدعوة له بالهداية.. أنت لم تجرِّبْ أن يلعنكَ شيخ هو الآن أحد النجوم المتسابقين على الفضائيات؛ لأنك وضعتَ على منزلك لاقطا للبث الفضائي ذات يوم، ولم تجرّبْ من جرَمكَ لأنّ ثوبك يصل إلى القدمين، ولم تجرِّبْ من خطَّأك لأنك تحب شعر الغزل وتقرأ “كتب الكفار”، ولا من رشحك طاغوتا لأنك تؤمنُ بكل رأي وترى كل ما يمكنك وتصلي منفردا إذا لم يمكنك جماعة أو لم يعجبْكَ الإمام، ولا من اعتبركَ خارجا لأنك عملت في بلدٍ إسلامي خارج هذا المكان!

لا تبتئسْ وتحمّلْ يا محمّد، فقد سمع خطباء القرى قبل عقود عن شعارات سياسية اسمها: قومية – تحررية – اشتراكية..إلخ، فانبروا يجلدون أبي وأباك الفلاحين في جبالهما وأوديتهما بلعن هذه المبادئ التي لم يسمعا عنها ولم يكنْ عليهما خوف من الشيوعية مع غنمهما.. دون أن يدركوا أن قضايا أهلنا آنذاك هي في كيفية الحرث والرعي وأساليب العيش والكدح وتربية الأبناء وصلة الرحم والعلائق الاجتماعية القروية.. عاش آباؤنا الرعاة المساكين وهم يؤمِّنون على لعن ماركس واليهود والنصارى دون أن يكونوا يعرفون من هم! كان على أبي أنْ يؤمِنَ فقط، وليس له أن يفهم أو يسأل علامَ ولماذا اللعن وأشعر بتأمينه ساخرا مما لا يعلمه!

وحتى اليوم وأنا لا أعلم جدوى الانفعال التمثيلي المسرحي لخطيب يلعن الناس على المنابر، في نفس الوقت الذي يذكر فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال حين رجمـه المشركون وكُسرتْ رباعيّته: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، ولم تجربْ آخر ينفعـل ثائـرا هـادرا أمام مسلمين مُقْسِما لهم ثلاثة أيمان بالله أن الله هو الخالق الرازق الموجود! ولا أدري لمَ لا يكون ذكر الله هدوءا وجمالا بالحكمة والموعظة الحسنة لا هديرا وجعجعة؟ ولمَ لا يكون الدعاء للمسلمين مقرونا بالدعاء لغيرهم بالهداية بـدلا عن السباب واللعن؟ تُرى: عندما يكون المُسلم في أحـد الحرمـين: أيهما أجدى وأكثر راحة له ورغبـة: الدعاء للبشرية ولكل خلق الله، أم لعن وسب فئات من خلقه؟ وما اللائق من الأمرين بمستوى الدّين؟ أم إن التَّلاعنَ موروثٌ سياسيّ قديم منذ كان يقرِّرهُ أحد الخلفاء فتسمع له الرعية من خطبائه وتطيع بلعن من عاداه؟

أعتقدُ أن الأمر – يا محمد – بقيّة من بقايا نظرة فئة تسمّى (مدَيِّنَة) قبل عقود كانت تُعرِّفُ المسلمين على أنهم (هم) وفقط، ومن خالف عاداتهم وتقاليدهم فقد خرج عن الدين! وسلْ أباك عنهم فهو ممن عرفهم! ولو كنتُ وزيرا للشؤون الإسلامية لأجريتُ بحثا تجريبيا سرّياً لعدة أعوام أقرّرُ خلالها ما يلي: أن تكون الإمامة والخطابة عملا احتسابيا حسبةً دون مقابل، بمعنى: إيقاف جميع مخصصات الصرف على الإمامة والخطابة لإتاحة الفرصة للقادرين الخيِّرين من محتسبي الأجر من الله وهم كثُر للقيام بهذه المهام.

ولا تنس أن اللعن صار يشمل الليبراليين والعلمانيين وغيرهم من فئات المسلمين، أي إنه يشمل المسلمين في الدول الإسلامية التي تؤمن بالعلمانية الإسلامية، ويشمل الليبرالي الذي يعطي المسلم حق العيش والاعتقاد كما يعطي غيره، دون أن يدرك البعض أن العلمانية أو الليبرالية أو الديموقراطية ليست عقَدِيّة بل مجرد أساليب إدارية تعطي الاعتقاد حرِّيَّة أكثر ولا تحجره على مفهوم واحد، فالخالق أوسع كثيرا من خلقه، لكنَ من خلقه من يتسلطُ على العقل بحَجْره.. لقد اعتدنا على لعن وإنكار كل جديد، حتى إذا تقادم وصار حتمياً قبلناه، وسوف يأتي اليوم الذي يكون فيه الخطيب فقيها من الواقع، لا مجرد حافظ يتلو ما حفَّظه غيرُه..

وحتى تعذرهم في شدة اللعن وإقصاء الآخر لك أن تتخيّل أن النصارى واليهود والبوذيين والهندوس وشعوب المايا ووثنيِّي إفريقيا وغيرهم يرون أيضا أنهم من اختارهم الله وخير أمم أخرجتْ للناس. >

شاهد أيضاً

الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة

صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل :  انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com