أحْكُمُكَ أو أَقتلك

نقرّ ونعترفُ -نحن معاشرَ ورثة آدم- بأنّنا مُدانون لأنظمة كل من المدعوين، سي أبي زيد الهلالي – فخامة الممانع الجديد، وصحبهما الكرام، دينونةً لا شِيَةَ فيها، ولا يقضيها سوى أن نسجّلَ للتاريخ بمداد الشكر والتقدير فضلهم علينا وعلى مستوى الوعي البشري الذي استمرّ جاهلا في أساليب حكمه وقيادته منذ إرثه أبويه ابنيْ آدم.

ومنْ أنكر ذلكم الفضل، فما عليه سوى أن يخلوَ بنفسه مع التاريخ قديمه وحديثه ليتبيّن كم كان جاهلا قبلهم وقبل أن يوضحوا لنا بجلاء كم كناّ جاهلين بشؤون الحياة، خصوصا نحن قبائلَ العالم الثالث وما بعده، إذْ إنّ إخوتنا مما قبله استطاعوا أن يصحوا من سباتهم البشري الذي كان أسوأ منا.. صحوا منذ ردّتْ سيدة فرنسا الأولى على ثائري الخُبز بأنّ عليهم أكل (الجاتوه) عندما لا يتوافر لهم خبزهم..

حسنا.. لنخلُ قليلا مع ما استأنَسْناه من التاريخ قبل تبرير شكرنا فتيةً آمنوا بصريح ظلمهم، فهل كان سلطان الإسْكَنْدر وأباطرة الروم وعروش كسرى نابعة من صناديق الانتخابات وإرادات الشعوب؟ وهل كان المُلْك الألوهيّ في بلاد النهرين وفراعنة مصر وبقية من حكمها عبر تاريخها ممن أتوا من خارجها حتى نهاية الأسرة الألبانية الباشوية، هل كان بقناعات فلاحيها وعمال بناء حدائقها المعلقة وأهراماتها أم بفرض هذه السلطة قسرا، وفرض الولاء قهرا؟

وهل كان بنو هلال في (برقة) المغرب مؤمنين حقاّ بأحقّيّة ابننا المهاجر أبي زيد الهلالي الحديث حتّى درجة دهشته بخروجهم وتساؤله عن الشعب (من أنتم؟).

هل كان خلفاؤنا القدامى من أميّة وبني العباس وغيرهم شاما ومغربا قادمين عن طريق صناديق عامة الرّعايا في شتى بقاع الأرض التي عمروها وملكوها؟

ثمّ زعامات ما بعد (سايكس بيكو) العربية بمن فيهم زعماء ثورات الاستقلال الذين أتقن بعضهم تمثيل الصناديق تمثيلا يؤمِّنُ ويبصم عليه طالبو حياة الخبز والكرامة والاستقلال. كلّ أولئكم -عبر زمن الإنسانية- كانوا حاكمين بأمرهم، وتكمن بطولاتهم في قدرتهم على البطش بمعارضيهم، ولذا رسختْ في البشرية فكرة البطولات والشجاعة والقوة إلى أخر المصطلحات، فالبطل هو من استطاع القضاء على منافسه، وهو من تهتفُ له رعيّتُهُ فإذا قضى نسيتْهُ وهتفتْ لقويّ آخر وهكذا.

ولأنّني جرّام (مربّي نحل)، فأنا أدركُ أنّ طبيعة الحياة تحتّمُ فكرة القيادة وضرورتها، فالنّحلُ تنتجُ بِكْرَها (ملكتها)، غير أنها (تنتجها) برضاها وتخدمها بإرادتها ومنفعتها ولا تخضعُ لها، وهي تتحكم فيها عند ضعفها أو زيادتها عن الحدّ اللازم- واسألوا مربي النّحل إن كنتم تجهلون-، ولذا فإنّ من تنبّؤاتي المستقبلية للبشرية، أنها تتّجهُ نحو الفطرة تدريجيا حتى تنجح في صناعة أبكارها كالنحل.

أما فضل السادة المذكورين أعلاه، فهو فضل غير منظور سوى بالتدبّر والتّؤدة والاتّعاظ . فقد أظهروا -مشكورين- حقائقَ كانتْ دفينةً يستخدمها غيرهم مبررات لأحاديّة ووحدانيّة صلاحيتهم في أممهم لقيادتها، فإن لم يكنْ سقطت الأمة، فمنها الدينيّ الذي خضع لاستخدامات شتّى باسم حمايته من قِبَلِ شخصيّة ما، فلولاه لضاع الناس وضلوا في دينهم ودنياهم. ومنها القوميّ، فلولا الزعيم لذابت قومية القوم وتحولت دماؤهم إلى قومية أخرى، ومنها الحياتي، فلولاه ما وجدوا ما يأكلونه فهو من يوفر لهم عيشهم ويقصد عليهم أرزاقهم. أما السادةُ المذكورون، فلم يداروا، ولم يتبنوا المبررات (ولا عبرة بأتباعهم من أبواق الإعلام)، بقدر ما كانوا واضحين صريحين صادقين، وهذا سيحسبُ لهم في التاريخ، لقد كان مبدأهم جليا: أحْكُمُكَ أو أقْتُلُك! عَلِمْنا كثيرا في التاريخ مما أطلقَ عليه القضاء على المعارضات والثورات والمنافسات على السلطة، وعرفنا كثيرا من إراقة الدماء في سبيل كراسي الحكم والزعامة، لكنها كانت غالبا ضدّ زعماء المعارضات والثورات، ولم نعلمْ من ضربَ الشّعبَ بالطائرات والدبابات وغيرهما من وسائل التسليح الاستراتيجي، كيْ يُخْضعه ليقول له بعد ذلك: أنا القائد الزعيم.. كنتُ أتمنى بأن بإمكاني أن أَجْرِيَ لحظة في دم الزعيم الممانع لأستطيع قراءة مراده إذا افترض بأنه هزمَ شعبه، ماذا سيسمي نفسه بعد ذلك؟ لقد حاولتُ جاهدا ممارسة (بروفة) خفيفة مع بني عمومتي وقبيلتي لا بالضرب بل بالخصام علّني أظفرُ فيهم بزعامة فكان العكس، فكيف لو ملكتُ قوة حديثة ثم ضربتهم بها، أهذا مدعاة لتمسكي بكرسي حكمهم؟

وبكل وضوح، قبِلَ الناس دكتاتورية أي دكتاتور أمكنه القضاء على منافسيه على اعتبار هذا جزءًا من تاريخ الإنسان المتسلط، لكن: كيف يقبلون قضاء القائد على شعبه بأحدث وأرقى الوسائل مصرّا على قيادته؟ وعليه هنا يحقّ للعالم ألاّ يثقَ في مثلِ هذه الأنواع من الأمم بأن تمتلك شيئا من الأسلحة النووية والاستراتيجية، فما الذي سيمنع مثل هؤلاء من استخدامها ضد شعوبهم حين تهتف بالحرية وطلب الخبز والكرامة؟ وضدّ كل الآخرين ولو في سبيل كرسي حكم؟

نحن مدينون لمثل أولئك الزعماء لأنهم عرَّوا تاريخا من الزّيف البشري المتسلط وقالوها صريحة لأول مرة: أحْكُمُكَ أوْ أقتلُك!
>

شاهد أيضاً

حالة الطقس المتوقعة اليوم الثلاثاء

صحيفة عسير _ واس توقع المركز الوطني للأرصاد في تقريره عن حالة الطقس لهذا اليوم …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com