لاعِنُو الخليقة!

جمعة مباركة.. اعتدنا على هذه الجملة من الأحبة الجميلين بعد صلاة الجمعة، لكننا اعتدنا أيضا على الفرقة بعد الجمعة، رغم أننا تعلمنا أنها عيدنا، أذكر أن أحد أحبتي أرسل إلي مرة سؤالاً مفاده: لماذا يدعو بعض خطبائنا على من يخالفنا في الاعتقاد بحلول الكوارث عليهم وهلاكهم، وعلى المتلقي أن يردد: آمين؟ ذكرتُ اليوم سؤاله خائفاً على مدينتنا الحبيبة (الرياض) من دعوات أحدهم لأنها حلتْ بها عيّنة من الكوارث الممكن حلولها على أي مكان، وخصوصا حين أذكر ربط بعضهم الكوارث التي تحل على خليقة الله بغضبه، كما خفتُ أن نسمع ذلك على المنبر لتفسير كارثة (ساندي) في أمريكا.. وأقول لصاحبي: أولئك ليسوا بخطباء.. فالخطيب عند العرب ليس بالحافظة الذي يردد محفوظات جوفاء بلا روح.. لقد كان لسان حال واقعه في الحدثِ أو في الوعظ أو حتى ضدهما.. إن بعض الخطباء هم أناس حفَظةٌ طيبون لا ذنب لهم لأنهم لا مجرد حفظة! هم جاءوا نتيجةً لما غرسناه فيهم فحفظوه وأجادوا الحفظ ولم يتساءلوا أو يفقهوا أنّ لكل مقام مقالاً.. إنهم يشعرون بضرورة أدائهم وظيفةً نحنُ من أطَّرها لهم.. ونحن من حدَّدَ لهم مفهوم الإسلام على أنه عاداتنا وقيمنا الاجتماعية المتوارثة وليس قانون حب ورحمة كونياّ.. ومن أجل هذا فمن خالف هذه العادات لعنوه بدلاً عن الدعوة له بالهداية.. أنت لم تجرِّبْ مثلي أن يلعنكَ شيخ هو الآن أحد النجوم المتسابقين على الفضائيات لأنك وضعت على منزلك لاقطاً للبث الفضائي ذات يوم.. ولم تجرّبْ من جرّمكَ لأنّ ثوبك يصل إلى القدمين.. ولم تجرِّبْ من خطَّأك لأنك تحب شعر الغزل وتقرأ كتب الكفار.. ولا من رشحك طاغوتا لأنك تؤمنُ بكل رأي وترى كل ما يمكنك.. وتصلي منفردا إذا لم يمكنك جماعة.. ولا من عدكَ خارجا لأنك عملت في بلدٍ إسلامي خارج هذا المكان!

لا تبتئسْ وتحمّلْ يا صديقي.. فقد سمع بعض خطباء القرى قبل عقود عن شعارات سياسية اسمها: قومية- تحررية- اشتراكية..إلخ.. فانبروا يجلدون أبي وأباك الفلاحين في جبالهما وأوديتهما بلعن هذه المبادئ التي لم يسمعا عنها ولم يكنْ عليهما خوف من الشيوعية مع غنمهما.. دون أن يدركوا أن قضايا أهلنا آنذاك هي في كيفية الحرث والرعي وأساليب العيش والكدح وتربية الأبناء وصلة الرحم والعلائق الاجتماعية القروية.. عاش آباؤنا الرعاة المساكين وهم يؤمِّنون على لعن ماركس واليهود والنصارى دون أن يكونوا يعرفون من هم! كان على أبي أنْ يؤمِّنَ فقط.. وليس له أن يفهم أو يسأل علامَ ولم اللعن، وكنت أشعر فعلاً بتأمينه ساخرا مما لا يعلمه!

وحتى اليوم وأنا لا أعلم جدوى الانفعال التمثيلي المسرحي لخطيب يلعن الناس على المنابر.. في نفس الوقت الذي يذكر فيه أن النبي قال حين رجمه المشركون وكُسرتْ رباعيّته: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون). أنت لم تجربْ آخر ينفعل ثائراً هادراً أمام مسلمين مُقْسِما لهم ثلاثة أيمان بالله أن الله هو الخالق الرازق الموجود! ولا أدري لمَ لا يكون ذكر الله هدوءا وجمالا بالحكمة والموعظة الحسنة لا هديراً وجعجعة؟ ولمَ لا يكون الدعاء للمسلمين مقروناً بالدعاء لغيرهم بالهداية بدلاً عن السباب واللعن؟ تُرى: عندما يكون المُسلم في أحد الحرمين: أيهما أجدى وأكثر راحة له ورغبة: الدعاء للبشرية ولكل خلق الله بالهداية.. أم لعن وسب فئات من خلقه؟ وما اللاّئق من الأمرين بمستوى الدّين؟ أم أن التَّلاعنَ موروثٌ سياسيّ قديم منذ كان يقرِّرهُ أحد الخلفاء فتسمع له الرعية من خطبائه وتطيع بلعن من عاداه؟!

أعتقدُ أن الأمر -يا صديقي- بقيّة من بقايا نظرة فئة تسمّى (مدَيِّنَة) قبل عقود كانت تُعرِّفُ المسلمين على أنهم (هم) وفقط.. ومن خالف عاداتهم وتقاليدهم فقد خرج عن الدين! وسلْ أباك عنهم فهو ممن عرفهم! ولو كنتُ وزيراً للشؤون الإسلامية لأجريتُ بحثا تجريبيا سرّياً لعدة أعوام أقرّرُ خلالها ما يلي: أن تكون الإمامة والخطابة عملاً احتسابياً حسبةً دون مقابل.. بمعنى: إيقاف جميع مخصصات الصرف على الإمامة والخطابة لإتاحة الفرصة للقادرين الخيِّرين من محتسبي الأجر من الله وهم كثُر للقيام بهذه المهام.. ولا تنس أن اللعن صار يشمل الليبراليين والعلمانيين وغيرهم من فئات المسلمين.. أي أنه يشمل المسلمين في الدول الإسلامية التي تؤمن بالعلمانية الإسلامية.. ويشمل الليبرالي الذي يعطي المسلم حق العيش والاعتقاد كما يعطي غيره.. دون أن يدرك البعض أن العلمانية أو الليبرالية أو الديموقراطية ليست عقَدِيّة بل مجرد أساليب إدارية تعطي الاعتقاد حرِّيَّة أكثر ولا تحجره على مفهوم واحد.. فالخالق أوسع كثيرا من خلقه.. لكن من خلقه من يتسلطُ على العقل بحَجْره.. لقد اعتدنا على لعن وإنكار كل جديد.. حتى إذا تقادم وصار حتمياً قبلناه.. وسوف يأتي اليوم الذي يكون فيه الخطيب فقيها من الواقع.. لا مجرد حافظ يتلو ما حفَّظه غيرُه.
>

شاهد أيضاً

الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة

صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل :  انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com