قراءة تذوقية للدكتور محمد بن علي درع لمقال الأستاذ فايع آل مشيرة ” تباً. ألم يعلموا بأنك نجران..؟!”

  • image

صحيفة عسير : أحمد شيبان

   شرَّفني الكاتب اللامع والشاعر البارع الأستاذ فايع علي آل مشيرة بإهدائي نسخة من مقاله:   “تباً. ألم يعلموا بأنك نجران..؟!”                   فقرأت مقالته قراءةً متأنية طويلة الأناة عند كل لفظ ومعنى كأني أقلَّبهما بعقلي،وأزنهما بقلبي،وأجسَّهما جسَّا ببصري وببصيرتي وكأني أريد أن أتحسسهما بيدي ثم أتذوقهما تذوقاً بعقلي،وقلبي،وبصيرتي،حقاً لقد سرى مقاله في عروقي مسرى الدم،ولستُ أدري ما سر ذلك..؟ أهو الصدق فيما كتب،أم هي العاطفة التي سرت في حناياه،أم تلك الصور التي جسَّدت مأسآته،ومعاناته،أم تلك السلاسة،والإنسيابية فيما أقرأ…؟ المهم إنني أدركت ذلك سريعاً،وأيقنت أنه استنطقني فأشركني حِمله وحملَ ما يحمل فشاطرته كل شيء.. دعني أميط اللثام عن أخفى أسراره،وأغمض سرائره ،فروعة إستهلاله بتلك المفردة المشبعة بمعاني الخسران،والهلاك والهلع والضلال والنقصان والمصحوبة بالإستفهام الإنكاري زانت المقال لحمةً وتماسكاً وتعاضداً.. فتباً لك أيُّها الأحمق المندحر الهالك وتباً لما تحمله من عداء وحقد،وحنق وجهل ومكروتبعية والإنسلاخ وتباً لمن وراءك الحاقدون المفسدون الساعون إلى ضعضعة الكيان،وزعزعة الأركان،وتمزيق الوحدة،وتوهين القوى.. إن بوحه بهذا الدعاء المحمَّل باللهيب،والغضب يتناسب وصدق التجربة الشاعرية عنده،وهذا أول ما يهمني في هذا المقال فالحدث يمثل بؤرة التجربة،ومبعثها،فقد لازمت مفردة           ” نجران ” اثنتا عشرة مرة ذات الدلالات الإيحائية،والرمزية،والتاريخية الكاتب فلم يستطع الفكاك منها،ولم يقبل أن يفارقها،وهي كذلك لا تقبل أن تفارقه فكان في حضورها إضفاءً،وبعداً واقعياً يقرَّبه من الحقيقة،ويبعد عنه الطابع التجريدي،ويميَّز تجربته،فقد يكون إطاراً لذكرياته السعيدة التي ثارت في نفسه،أو إطاراً مرتبطاً بماضيه التليد،أو يكون إطاراً لمعاناته الراهنة،أو لتوجسه،وخوفه من المستقبل الآتي،أو تسلية لمصابه..وكذا القول في                        ” الأخدود،وكعبة نجران” فتأمل… والصورة جزء مهم في تجسيد المأساة وكشف المعاناة،وخلاصة الرؤية ولذا جاءت صوره تعبيراً عن إحساسه،وأحزانه النفسية تطيف بخياله تجسيداً لحالته،وحالتنا البائسة اليائسة الضعيفة والواهنة التي تعترينا أمام هذا الوحش الغاشم البغيض المتسلط. والكاتب أودع مقاله صوراً قوية الدلالة على معاناته،وتوجسه فجاءت عفوية تلقائية بعيدة عن التكلف،والإفتعال،ولعل مرد ذلك إلى وطأة الواقع وإستشعاره الألم،والمصاب،والفجيعة تأمل ” تطالك يد الغدر يا نجران”” تزرع في قلبك الرعب والهلع” “الوحشية الدامية” ” الجرم المشهود” ” خلدته كف الحضارة ” ” تسكنك قبل أن تسكنها” ” كأنها سنة ” ونراه يرمز فيعتز كثيراً بالإرث التاريخي العظيم الضاربة جذوره في أعماق الدنيا،وعروقه في بطن التاريخ بدءً من أخدودها الشاهد على المعاناة،والصبر والسلوان،ومروراً بنخلها نخل العزَّة،وطلعها طلع الكرم،والمروءة،وبيوتها بيوت الشرف،وتخليداً لكعبتها أمن العابدين،وآمان الخائفين،ونصرة المظلومين،وإغاثة الملهوفين،وإنتهاء ببراعة حِكمها وحكيمها وخطيبها خطيب الإصلاح،والفقة والإ شاد والتوجيه،والعدل والوسطية.. وقد سبقني قلمي فكتب عن فايع الشاعر البارع لما لمسه من دفقات وجدانية تفيأت خيمة ” الرومانسية” التي ركز عمودها لذا لا تفارقه ولا يفارقها،ومن هنا تغنَّى كثيراً بألفاظ منتقاه جاءت متلألأة في مقاله: “الطبيعة – المعايشة – الحب – السلام – أغنيات – الحقول -يشدو – السنابل الصفراء – البيضاء – الحرية – الإنسانية ..” وأجد أن هناك إحساساً عنده وهو الربط،والإنتقال بين المشاعر الذاتية والحديث عن نجران،والحضارة والتاريخ والمكان والإنسان ألمسه دون أن تتقطع أنفاسه وتتبدد،فما سره؟ أهو الحب،والولاء والإنتماء،والوفاء،أم الرفض والبغض والعداء… وتلاعب الكاتب بتراكيبه فراوح بين الجمل الأسمية والفعلية فأجتمعت لتمثيل الجمع بين الثابت والمتحول،كما توافرت صيغ الأفعال وكأنه بذلك يريد أن يقول لنا: هناك إنتقال من حال إلى حال وما صرخاته إلا رغبة مُلحَّة في التبديل،والتغيير تأمل : ” تطالك – تزرع – ترتكب – تشكَّل – خلدته – نهلت – جنت – انتصبت – تروي – نالت – همست – تقضي – تسقط – تستطيع ..” وورود الجمل الأسمية كان لإفادة الثبوت تأمل: ” نجران مدينة المؤمنين – نجران الحرية البيضاء- نجران النقش والأثر- إنسان نجران ذو طبيعة متعايشة – لأنك المجد الخالد في ذاكرة العالم والدنيا”.. وتستوقفني تلك الجموع جموع الكثرة ” الكفوف – نقوش- بيوت – أجيال – عظام – جبال – حقول – سنابل – جدران ..” ولا شك أنها تنبئ عن تزاحم،وتكاثف وإحتشاد المشاعر والأحزان في أعماقه..وتحل في مقاله الظروف بغية الحلول والإستمرار،فتأمل ” في بيتٍ من بيوت الله – في شهر الله المحرم -من ماء نجران – بين واحات الجمال – تسكنك قبل أن تسكنها – كلما…” وينشأ الصراع بين اللونين ” البيضاء” رمز النقاء والحب والسلام واللون الأصفر رمز المرض والوباء والضلال،أو قد يكون رمزاً للحصاد والزرع والخير العميم.. وتشارك الأجراس الصوتية الموسيقية المعاناة فتراه قد عزف على حرف الراء فهو يجهر بأحزانه وإضطراباته،وإرتعاشه أمام هذا الخطر،وهذه الفاجعة،ويعطي القارئ رعشة متكررة فكأنه يجسَّد حالات الإضطراب الوجداني التي عاشها،وعشناها جميعاً،ويرفد حرف الراء النون ذا الجو البائس الحزين المنكسر والذي يتناسب وتجارب الفقد واللوعة والفراق.. ويسهم حرف السين في توجسه،وخوفه ورعبه،وضعفه،وشدَّة إعيائه إذ لم يعد قادراً على تحمل هذه الفجائع لذا فهو يلحُّ كثيراً على العيش بسلام،ويدعو إلى ذلك من خلال حرف الحاء..وقد بث شكواه عبر حرف الياء مستنداً إلى حروف،وآهات ” المدود” فكوَّنت نغماً جنائزياً بث فينا رنَّة الوحدة ، والفجيعة المتصلة بتلك الأصوات الخاشعة ذوات النغمات الباكية المديدة،وكأنها تأتي من أعماق وادٍ سحيق. وقد تلاحمت هذه المقالة كتلاحم قارئيها،وتضافرت كتضافرت محبيها فأعلنت بقوة وبكل ما سخَّره الكاتب من طاقات تعبيرية، وأسلوبية وفنية أننا كلنا نجران، فسحقاً للتطرَّف،والمتطرفين،وشاهت وجوه الحاقدين،وتحية لرموز الحب والخير والسلام..

>

شاهد أيضاً

ينطلق الجمعة 19 أبريل..
 
“جمعة الماجد للثقافة والتراث” ضيف شرف مهرجان الجبل الثقافي الـ3

صحيفة عسير _ يحيى مشافي تنظم جمعية الفجيرة الاجتماعية الثقافية بالتعاون مع دائرة السياحة والآثار …

تعليق واحد

  1. تذوق جميل من كاتب جميل
    سلمت أناملك دكتور محمد

    تقبل تحيات أخوك أبو سعد

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com