محمد زايد الألمعي.. “يا لهذا العجوز الولَد”

تقول القاعدةُ الجديدة: “إنْ تكتبْ عن شخصٍ تعرفه أكثرَ من نفسِه، تفشلْ”، ويُبنى على هذه القاعدة نهيٌ عروبيُّ جديد، يقول: “لا تكتبْ عمّن تعرفه أكثر منه”.

وبما أنّ كاتب هذه السطور، “لا يسمع الكلام”، ولا يرعوي أمام النصيحة، فسيكتب عن محمد زايد الألمعي، من غير جانب، علّ ذلك يكونُ سبيلاً إلى إزالة “التلابسات”، و”التداخلات”، أو معيناً على زيادتها، أو علّ الكتابة تفتح طريقاً يقودُ إلى لا شيء.

هذا المحمد شاعرٌ تعجزُ النعوتُ عن قصيدته، ومثقفٌ تخرجُ منه أفكارٌ، يرتفعُ منها سَحابٌ، تتراكمُ عليه ثلوجٌ كثيرة، فلا هي تُمطر، ولا هي تكف عن إبهار العقول بطرائق الاستدلال والعرض والاستنتاج والنتائج.

محمد زايد الإنسان، يأنسُ إلى “البسطاء جدّاً”، ويأنسون إليه، فلا يجالس إلا إياهم، ولا يسعى إلا لهم، ولا يذكر بحبٍّ سواهم، بيد أن تعرّجات دروب الحياة تأخذه إلى التقاطع مع بسطاء من نوعٍ آخر؛ وهم البسطاء الذين لا يريدون أن يكونوا بسطاء، أو يتوهمون أنهم ليسوا بسطاء، لأنهم ـ ببساطة ـ بسطاء في طريقة التفكير، وبسطاء في الأدوات والفهم والقدرات.

مشكلة محمد زايد المتفاقمة، ليست مع البسطاء جدّاً، وإنما هي مع الصنف الثاني من “البسطاء عقولاً”، ممن لا يستطيعون ابتلاع المعلومة، أو إدراك الحقيقة، وكأنها ـ بالنسبة إليهم ـ لقمةٌ بين الحلقوم والمعدة، ولذا فإنهم مع محمد زايد، يشبهون أعرابيّاً يستمع إلى “أميركيِّ”، وليس بينهما “تُرجمان”، فيشعرون بالكثير من أسباب النقص، وضعف الحيلة، وهشاشة المخ، ولا يكون أمامهم، والحال كذلك، إلا أنْ يسدوا الثقوبَ الكبيرة في أجرام كونهم، بتفصيل المثالب، وخياطتها، وإلباسها لمحمد زايد، في أكثر من ثوب، حتّى يخرجوا من دائرة “البسطاء عقلاً”.

محمد زايد الموظف، يخسرُ وظيفتَه كلّما أخلصَ لها، ويدوم فيها كلّما جعلَها من “سقْط العمل”، ولذا غادرَ أكثرَ من مكانٍ هو به أولى؛ غادر ونار “البسطاء” من الصنف الثاني، تسرعُ خلفَه، وهو يمشي ببطء قائلا: أيّتها النارُ الغبيّة أبطئي.. أبطئي، فلا يمسّه منها إلا القليل من الغبن، والكثير من الشعور بالاغتراب.

محمد زايد الشاعر، يكتبُ القصيدةَ ناضجةً كما شاءت لها اللغة، منذ منتصف السبعينات الميلادية، وقبل أن تنضجَ ـ في القصيدة السعوديّة الجديدة ـ ألفُ قصيدة، ومنذ ذلك العمر، وهو يدور بين دوّامات قصيدةٍ ثالثة، تُديره كلما تدلّى من سقف فجيعةٍ جديدة، ويديرها كيفما شاءت له شاعريّته الحقيقيّة، حتّى باتت قصيدتُه سيرتَه، مذ كان طفلاً، حتّى صار عجوزاً ولَداً، فـ “يا لهذا العجوز الولَد”، الذي “لم يَصِلْ، منذ خمسين عَاماً، إلى ما قَصَدْ”.

محمد زايد الشاعر، يشعر بالكثير من الاغتراب، وتلك نتيجةٌ بدهيّة، لما مرّتْ به حياتُه من منعطفاتٍ حادّةٍ، لا يتجاوزها بسلام إلا من أراد الحقيقة بقلبٍ سليم، ولذا نراه في جلّ قصائده يتكئ على السياقات الاجتماعيّة، وأنماط العلاقة الغريبة بين الشاعر المثقف، والنّاس وما يحيطُ بهم، ثم تذوبُ قصيدتُه في فلسَفةٍ عميقةٍ لمآل أحواله، وفي مرّاتٍ كثيرةٍ، يجرّدُ من ذاتِه طفلاً له طموحاتٌ كبيرةٌ وجميلةٌ في الوقتِ نفسِه، ثمّ يهيم على قلبه، ويكثر ـ دائماً ـ من السردِ الاستعادي لأحلامِ وصفات محمد زايد الطفلِ.

محمد زايد الشاعر، يشعر بالاغتراب بين أهله الجبليين، الذين كانوا يسمّون القريةَ “الوطن”، والحقلَ “البلد”، ويسمّون أشجارَ السّدْر بأسماء الأبناء، حين كان صبيانهم يلتقون بصباياهم في “سوق الأحد”، وما ذاك الاغتراب إلا بسببٍ من تكاثر “البسطاء عقولا”، إلى حدّ اغترابِ مثقّفٍ يعيشُ تحتَ سدرتِه، وبين أهلِه؟

محمد زايد الشاعر، يبحِرُ بالقصيدة في عوالِم من الخيالات، يستبطنُ بها النفسَ، ويجعل من القصيدة رسالةً معرفيّة شاعرة، تبني الحاضرَ على الماضي حيناً، وتقطعه عنه حيناً آخر، وتنظرُ في المآل الذي لم يكن من آمال الطفولة، حتّى يموت الطفلُ فيه، أي يموت هو بوصفه طامحاً، ويرسو على شواطئ من القلق، والإحباط، وعدم تحقّق الآمال، مما يشي بالرغبة في التمرّد على أسباب موت الطفل محمد زايد، الذي لم يبق له من التأمل سوى منح الطفل فرصةَ أن “يتهجى مراثيَه”.

محمد زايد، لا يكترثُ بإنتاجه الشعري، أو الثقافي، أو الفكري، وتلك “مثلبتُه” الحقيقية، فلم يصدرْ ديواناً، ولو أصدره، لخجلتْ دواوينُ كثيرة، ووُلد “بسطاء جدد”، ولم يخرج كتاباً يتضمن أفكاره العميقة، ولو أخرجه لعرفنا الفارق بين اقتتال الأفكار في الذهن حدّ تخلّقها، واقتتال “البسطاء عقولاً” على “قصعةٍ” من حضور، أو حفنة من “وجاهة”، حدّ ذوبانهم في محيطٍ يغسل الأرضَ من بقايا الهباء.

وبعد؛ فهل نقرأ شعراً مجموعاً، أو فكراً مطبوعاً، لمحمد زايد، قبل أن يشيخَ فينا الوقت؟
>

شاهد أيضاً

مجلس الشورى يعقد جلسته العادية الخامسة من أعمال السنة الثانية للدورة التاسعة

صحيفة عسير ــ واس عقد مجلس الشورى اليوم الاثنين، جلسته العادية الخامسة من أعمال السنة …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com