لن أتحمّل وزر إقحامكم في تعريفات الأمية اللغوية والتقليدية العتيقة بعد أن بات الجميع أرباباً لأحدث أنواع التواصل الاجتماعي تقنياً. سأدخل إلى مصطلح أمية يخصّني. فهي: عدم القدرة على التواؤم الحياتي مع المحيط والزمن، سواء كان هذا على مستوى مؤسسي أو فردي، وسواء كان هذا بعلم الفرد أو المؤسسة أو بجهلهما. كما لم أكنْ أريد الحديث عن الميّتِ الذي يعيش بين ظهرانينا، رأفةً بنفسي من المشاركة بالضربِ فيه، وخوفاً من انزلاقي في الحديث عن التعليم العام الذي أحملُ عنه ما يكسرُ قلمي على كثرة انكساراته. ولا يعتقدنّ أحدٌ أنني أمنح هذا اللقبَ الأمّيّ على سواي غروراً مني، فأنا أحدُ عناصر هذا المركب، لكنّ الاستبطان الفردي أو الجمعي أحد المناهج العلمية المهمة في مجال التشخيص.
كنتُ هممت بالحديث عن بنات (أبها) وجامعتهنّ وعن فلسفة اتِّباع البنين إياهنّ، غير أن الحديث عن جامعة الملك خالد وخفاياها ارتكز بين العالِمِين أكثر مني بتلك الخبايا، ولم يزل أمرها قائماً لكنْ دون حديث عنه وستظهره الأيام بجلاء.
مشكلتي ليستْ في الفساد الإداري الكثير في جامعاتنا، فأنا أعرف من منسوبيها الكثير ممن يستطيع ويملك كشفه، وليستْ في سمعنا عنهم من ذوي المؤهلات الورقية الكثيرة التي لا تحملُ الحدّ الأدنى مما يعادلها في مجال الاختصاص، بل هي في الأميّة العامة الجمعية التي تعانيها حول مفهوم دور الجامعة. ففي بلد كبلدنا -بما يملكه ويصرفه من القدرات المادية الهائلة- لم نعلمْ نجاحاً لمركز للبحوث المتخصصة (إذا استثنينا مركزاً للحج تشرف عليه إحداها) أو الأمل المعقود على جامعة الملك عبدالله في أن نرى منها شيئاً، أو ما نسمع عنه من أنشطة ثقافية وعلمية خارج المدرجات التقليدية في جامعة جازان مثلاً!
المشكلة التي قد يشعر أو لا يشعرُ بها منسوبو جامعاتنا هي: الانقطاع الكامل بين الجامعة ومحيطها، في الوقت نفسه الذي تجد أهدافها المكتوبة نظرياً تربط بينها وبين المناخ المحيط!
لم أعلم -مثلاً- جامعة تسهمُ للمجتمع في المجال الزراعي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي إسهاماً عملياً حياً مباشراً، وكأن مهمتها تقتصر على محفوظات من المحاضرات، وحثّ طلابها على اقتناء بحوث وأعمال أساتيذهم المتعاملين مع مكاتب الخدمات الجامعية.. لم أجدْ جامعةً تتعاونُ مع مجتمعها ومحيطها حسب أجوائه وأحواله وطقوسه. هناك نوع من الكبرياء الاجتماعية المرضيّة والجفاء الصامت بين معالي الجامعة الورقية مؤسسة أو أفراداً والمجتمع المدني والمهني والحياتي.
يلفتُ نظرك ذلك الصمتُ الرهيبُ لجامعاتنا إزاء المناسبات الإنسانية والوطنية والثقافية، واقتصارها على منح أوراق متفاوتة الدرجات والاختصاصات من أدراج لم تخرجْ بأساتذتها وطلابها ومراكزها إلى شمسٍ خارج القاعات. وتلتفتُ إلى بعضها فلا ترى سوى سباق على الحصول على مرتبة عالمية بوسيلة مادّية أو شبهها وبأساليب ملتوية.
وتأتي إلى إحداها ذات الصيت في هجرة أساتذتها وانفجارات طالباتها وطلابها فلا تعلم أنها شاركتْ مجتمعها النشط صيفاً وشتاءً عملاً واحداً، مقتصرةً على محاضرات عبارة عن حصص تقليدية صدئة عفا على أساليبها الزمن، ولا تجد فيها مركزاً بحثياً واحداً أنتج لنا شيئاً مما يوازي جزءاً مما يقدّمُ لها مادياً!
مشكلتنا ليستْ في أميّة كثير من الأكاديميين الذين اكتفوا بالحصول على الدرجات العلمية العالية والوظيفة التي يصعبُ زحزحة أحدهم عنها وتقويمه الحقيقي فيها، بمقدار ما هي أميّة في المفهوم العام لعمل الجامعة ودورها التنويري والإنتاجي باعتبارها قلب الرقيّ ورائدة التغيير في أي مجتمع.
وتنظر إلى أخرى تطلّ من نوافذ مدرجاتها على فعالية ثقافية عالية المستوى لكنّ أساتذتها وطلابها (ومراكزها البحثية إن وجدت) في بيات داخل الأسوار، رغم إسهام كل الجهات المحيطة في هذه التظاهرة، فتخجل من نفسك وكأنك المسؤول عن هذا الانكفاء!!
وداع:
شكراً لنجران أميراً وقسّاً وأهاليَ وتاريخاً وعبقاً على ما قدموه على المستوى الثقافي والاجتماعي والإداري خلال مهرجان قس بن ساعدة الأول الذي نهض من سباته، ولملحمة (شعب النار والجنة) ومبدعيها، وعلى ظهور أهلنا نقطة مضيئة على جبين الوطن، ونبراساً يضعُ مناطقنا أمام مسؤولياتها في تقديم مخزوننا الثقافي العربي الذي لم يزلْ في بياتٍ منذ آلاف السنين وحان إخراجه من هنا، بدلاً عما نراه كتباً ودراما تجارية بحتاً من خارج جزيرتنا أو نُسَخاً من ذلكم التشويه..
– دَمّة إلى من اختفوا:
قال أبي -رحمه الله- ذات يوم عن أحدهم عندما اختفى برؤية الضّيف:
(لَوْ هُوْ تبادَى واعْتَذَرْ ياَ زيْنِ عذْرَتِهْ
لَوْ هُوْ بترحِيْبَهْ وعِلْفَهْ لِلزَّماَيِلِ)
كنتُ هممت بالحديث عن بنات (أبها) وجامعتهنّ وعن فلسفة اتِّباع البنين إياهنّ، غير أن الحديث عن جامعة الملك خالد وخفاياها ارتكز بين العالِمِين أكثر مني بتلك الخبايا، ولم يزل أمرها قائماً لكنْ دون حديث عنه وستظهره الأيام بجلاء.
مشكلتي ليستْ في الفساد الإداري الكثير في جامعاتنا، فأنا أعرف من منسوبيها الكثير ممن يستطيع ويملك كشفه، وليستْ في سمعنا عنهم من ذوي المؤهلات الورقية الكثيرة التي لا تحملُ الحدّ الأدنى مما يعادلها في مجال الاختصاص، بل هي في الأميّة العامة الجمعية التي تعانيها حول مفهوم دور الجامعة. ففي بلد كبلدنا -بما يملكه ويصرفه من القدرات المادية الهائلة- لم نعلمْ نجاحاً لمركز للبحوث المتخصصة (إذا استثنينا مركزاً للحج تشرف عليه إحداها) أو الأمل المعقود على جامعة الملك عبدالله في أن نرى منها شيئاً، أو ما نسمع عنه من أنشطة ثقافية وعلمية خارج المدرجات التقليدية في جامعة جازان مثلاً!
المشكلة التي قد يشعر أو لا يشعرُ بها منسوبو جامعاتنا هي: الانقطاع الكامل بين الجامعة ومحيطها، في الوقت نفسه الذي تجد أهدافها المكتوبة نظرياً تربط بينها وبين المناخ المحيط!
لم أعلم -مثلاً- جامعة تسهمُ للمجتمع في المجال الزراعي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي إسهاماً عملياً حياً مباشراً، وكأن مهمتها تقتصر على محفوظات من المحاضرات، وحثّ طلابها على اقتناء بحوث وأعمال أساتيذهم المتعاملين مع مكاتب الخدمات الجامعية.. لم أجدْ جامعةً تتعاونُ مع مجتمعها ومحيطها حسب أجوائه وأحواله وطقوسه. هناك نوع من الكبرياء الاجتماعية المرضيّة والجفاء الصامت بين معالي الجامعة الورقية مؤسسة أو أفراداً والمجتمع المدني والمهني والحياتي.
يلفتُ نظرك ذلك الصمتُ الرهيبُ لجامعاتنا إزاء المناسبات الإنسانية والوطنية والثقافية، واقتصارها على منح أوراق متفاوتة الدرجات والاختصاصات من أدراج لم تخرجْ بأساتذتها وطلابها ومراكزها إلى شمسٍ خارج القاعات. وتلتفتُ إلى بعضها فلا ترى سوى سباق على الحصول على مرتبة عالمية بوسيلة مادّية أو شبهها وبأساليب ملتوية.
وتأتي إلى إحداها ذات الصيت في هجرة أساتذتها وانفجارات طالباتها وطلابها فلا تعلم أنها شاركتْ مجتمعها النشط صيفاً وشتاءً عملاً واحداً، مقتصرةً على محاضرات عبارة عن حصص تقليدية صدئة عفا على أساليبها الزمن، ولا تجد فيها مركزاً بحثياً واحداً أنتج لنا شيئاً مما يوازي جزءاً مما يقدّمُ لها مادياً!
مشكلتنا ليستْ في أميّة كثير من الأكاديميين الذين اكتفوا بالحصول على الدرجات العلمية العالية والوظيفة التي يصعبُ زحزحة أحدهم عنها وتقويمه الحقيقي فيها، بمقدار ما هي أميّة في المفهوم العام لعمل الجامعة ودورها التنويري والإنتاجي باعتبارها قلب الرقيّ ورائدة التغيير في أي مجتمع.
وتنظر إلى أخرى تطلّ من نوافذ مدرجاتها على فعالية ثقافية عالية المستوى لكنّ أساتذتها وطلابها (ومراكزها البحثية إن وجدت) في بيات داخل الأسوار، رغم إسهام كل الجهات المحيطة في هذه التظاهرة، فتخجل من نفسك وكأنك المسؤول عن هذا الانكفاء!!
وداع:
شكراً لنجران أميراً وقسّاً وأهاليَ وتاريخاً وعبقاً على ما قدموه على المستوى الثقافي والاجتماعي والإداري خلال مهرجان قس بن ساعدة الأول الذي نهض من سباته، ولملحمة (شعب النار والجنة) ومبدعيها، وعلى ظهور أهلنا نقطة مضيئة على جبين الوطن، ونبراساً يضعُ مناطقنا أمام مسؤولياتها في تقديم مخزوننا الثقافي العربي الذي لم يزلْ في بياتٍ منذ آلاف السنين وحان إخراجه من هنا، بدلاً عما نراه كتباً ودراما تجارية بحتاً من خارج جزيرتنا أو نُسَخاً من ذلكم التشويه..
– دَمّة إلى من اختفوا:
قال أبي -رحمه الله- ذات يوم عن أحدهم عندما اختفى برؤية الضّيف:
(لَوْ هُوْ تبادَى واعْتَذَرْ ياَ زيْنِ عذْرَتِهْ
لَوْ هُوْ بترحِيْبَهْ وعِلْفَهْ لِلزَّماَيِلِ)
>