من البادية إلى عالم النفط

مخطئ من يظن أن هذا الوطن مجرد بحيرة من النفط. إنه قصة الرجال وقصة المؤسسين، وقصة الحلم الذي ابتدأ ذرات من الرمال قبل أن تتحول هذه الصحراء إلى المعجزة الأبرز على وجه الأرض. اشترى لي المهندس علي بن إبراهيم النعيمي، وزير البترول الأسبق، بضع ليال سبحت فيها مثل (جمل طائر) فوق كثبان كتابه الأخير، وعلى حد علمي هو الأول والأخير.
وأنا لا أعتقد أنني قرأت في الفترة الأخيرة كتابا أخاذا مثلما قرأت هذا الكتاب وأنا العاشق المتيم بأدب السيرة الذاتية. كيف كتب علي النعيمي سيرته الذاتية؟ باختصار: حين تجرد من الأنا وتضخيم الذات فلم يتحدث عن نفسه إلا كمسمار أساسي داخل الآلة السعودية الجبارة. وحينما تقول في نهاية الأمر إنه يكتب سيرته الذاتية فهو إنما يكتب سيرة التحول الوطني منذ أول معجزة النفط وحتى هذه اللحظة. ولو كنت صاحب قرار لوزعت السبعين صفحة الأولى من هذا السفر على كل محبط في مدرسة أو فاشل في قصة حياة أو عاطل في غرفة نوم.
ولد علي النعيمي ورمته أمه من رحمها عاريا على الرمل في بقعة صحراوية لاهبة، وحين لبس الحذاء للمرة الأولى في حياته كان يضعه على كتفيه وكأنه يريد لقدميه أن تبلى، أو هي فرحة الطفل بالحذاء. كانت له قصص مع الثعابين والزواحف، وكم سيدهش جيل النفط اليوم حين يعلم أن أكبر رئيس لأعظم شركة نفط في هذا العالم قد أكل لحم الذئب نيئا مع أبيه وأخويه، وهو الذي جلس من بعدها على موائد كل إمبراطور وملك وزعيم.
كان طفلا يشحذ الوظيفة وفي كل مرة كان يطرد. وحين زوّر له الطبيب سن السابعة عشرة ذهب إلى أرامكو أميا حافيا عاريا في مقابلة من أجل الوظيفة. كانت الوظيفة ساعي بريد، وعندما سأله الأميركي الطويل النحيل: وماذا تريد من الوظيفة؟ كان الجواب بلا تردد: أريد أن أصبح يوما ما رئيسا للشركة. فأجابه الأميركي: هذا أعظم جواب سمعته في حياتي. ولم تكن من الصدفة أبدا أن ذلك الأميركي مات في مستشفى في تكساس وهو قابض بيسراه على يمين علي النعيمي وقد تحول ساعي البريد وعامل القهوة القديم إلى أول رئيس سعودي لأرامكو السعودية.
هي رسالة إلى كل الذين يظنون أن الفرصة قد فاتت لإصلاح الخلل. كان النعيمي في العشرين من عمره وهو لا يفقه إلا الخط وشيئا من قراءة العناوين وقليلا من قاموس اللغة. لكن هذا العصامي كان أول سعودي يطرق أبواب جامعة ستانفورد ويدرس جيولوجيا البترول في درة الجامعات الأميركية.
كان طفلا يشاهد الأميركي “ستاينكي” وهو يحفر بئر الخير في جبل الظهران، وكان طفلا أيضا وهو يمشي مع “خميس بن رمثان”، يستطيع التمييز بين جبال الرمل وكثبانها وكأنه ينظر إلى خريطة كفه وتفاصيل أصابعه.
قبل عشرين عاما قال “ريكس تيلرسون” -الرئيس السابق لإكسون وموبيل ووزير الخارجية الحالي لأميركا-: لا أجد من يبزني في هذا العالم بالرؤية وصفاء الذهن وحب العمل إلا علي النعيمي. أما أنا فأقول: لو أنني خيرت بين اثنين في الطموح والعصامية لما اخترت المخملي الأثير الراحل غازي القصيبي إلا ثانيا بعد علي النعيمي. ولو قالوا لي اختر عشرة غيروا مسار الإدارة السعودية لاخترت علي النعيمي من بين أول ثلاثة. شكرا أبا رامي، فلأربع ليال خلت كنت معك في ذات الغرفة. في ذات الرحلة.

علي سعد الموسى   

>

شاهد أيضاً

قريبًا التشغيل الكلِّي

بقلم / عيسى آل هادي بالأمس تم الإعلان عن قرب التشغيل الكليِّ لمستشفى محافظة رجال …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com