بقلم :أ/خالد بن محمد الانصاري
مع إطلالة شهر رجب من كل عام يتجدد لنا هذا المثل السائر «عِشْ رَجَباً تَرَ عَجَبًا» على مدار الزمان والمكان.
وتروى قصته عن الحارث ابن عباد وكان ذا مكانة وملك في قومه ، حيث طلق إحدى زوجاته من بعد ما تقدم في العمر وأصابه الخرف ، فتزوجها بعده رجل كانت تظهر له من المودة والحب ما لم تكن تظهره لزوجها الحارث من قبل ، فلقي زوجها الحارث ذات يوم فأخبره بمنزلته الكريمة من زوجته، فقال الحارث: «عِشْ رَجَبًا تَرَ عَجَبًا».
والمعنى: عش رجبًا بعد رجب فسيظهر لك في الحياة العجب، ولربما كان كل إنسان بحاجة إلى الاستشهاد بهذا المثل ذات يوم؛ لأن الحياة في مسيرتها المتجددة لا يمكن أن تخلو من العجائب في كل الجوانب العقدية والدينية والاجتماعية ، فمن قدر الله له العيش في الحياة عمرًا طويلًا فسوف يرى من تقلب أحوالها ما يثير العجب.
ومن العجب ما استحدثه بعض الناس في هذا الشهر من عبادات لا تثبت ولم يرد في تخصيصها نص شرعي صحيح، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
صيام رجب: لقد تضافرت النصوص في السنة النّبوية عن النهي عن تخصيص شهر رجب بصيام أو صلاة، ومن ذلك ما روى ابن ماجة في «سننه» أنّ النّبي صل الله عليه وسلم: «نهى عن صيام رجب».
كراهية الصحابة لتخصيص رجب بشيء: بناء على نهي النّبي ــ ﷺ ــ عن تخصيص رجب بصيام أو صلاة، فقد كره الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ تخصيص رجب بأي عبادة وأنكروا بشدة على من فعل مثل ذلك، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «ضرب بالدِّرة رجالًا صاموا رجب وأجبرهم على الأكل، وقال: ما رجب؟ إنّ رجب كان يعظمه أهل الجاهلية فجاء الإسلام بتركه».
علة تحريم الأشهر الحرم: الأصل في تحريم الأشهر الحرم أن الله تعالى لما شرع الحج وأمر نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج حرم القتال في هذه الأشهر الأربعة، لتكون مسالك الحج آمنة ليؤدوا هذه الشعيرة في طمأنينة وأمان، وذلك لأن العرب كانوا يعتمدون في الحصول على أرزاقهم على الحروب والغارات، فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها، فقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئًا لنهلكن.
وكانوا يتحايلون على حرمة بعض هذه الأشهر فيستلفون شهرًا غير محرم ويضعونه في شهر محرم مما اضطرهم إلى تنقل الحج في كل أشهر السّنة ، فكانوا يحجون في صفر ويتقاتلون في شهر الحج، حتى حج النّبي ــ ﷺ ــ حجة الوداع فثبت الحج والأشهر الحرم كل في مكانه، وبهذا قضى على فوضى التبديل والاحتيال على استباحة ما حرم الله تعالى.
العتيرة في رجب: ومن تعظيم أهل الجاهلية لشهر رجب ذبحهم ما يسمى «العتيرة»، فجاء الإسلام بإبطالها، وشرع الأضحية والهدي والعقيقة، وفي الحديث المتفق عليه أن رسول الله ﷺ قال: «لا فرع ولا عتيرة».
الفرع: هو أول نتاج الناقة، وكانوا في الجاهلية يذبحونه قربانًا لآلهتهم.
العتيرة: هي ما يذبح من الضأن في شهر رجب قربانًا وطلبًا للبركة في أموالهم وأولادهم.
صلاة الرغائب: إن مما أحدثه أهل البدع من العبادات في رجب صلاة الرغائب، فقد قال عنها الحافظ ابن رجب رحمه الله : «إن الأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل ولا تصح، وهذه الصّلاة بدعة عند جمهور العلماء».
إحياء ليلة سبع وعشرين من رجب: من البدع في شهر رجب إحياء ليلة سبع وعشرين على أنها «ليلة الإسراء والمعراج» وتخصيصها بأنواع من الاحتفالات والعبادات التي ما أنزل بها من سلطان، وبعض الأدعية والأذكار، وهذا باطل من وجوه عدة:
الأول: لم يقم دليل على تعيين ليلة الإسراء والمعراج، ولا على الشهر الذي وقع فيه، فالعلماء مختلفون في زمانه، فتخصيص ليلة من الليالي في رجب أو غيره للإسراء تخصيص لا دليل عليه.
الثاني: لو ثبت تعيين الليلة التي وقع فيها الإسراء لم يجز لنا أن نخصصها بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله، فإنه لم يرد أنّ النّبي ﷺ احتفل في تلك الليلة ولا خصها بشيء من العبادات، ولم يفعل ذلك الخلفاء الراشدون بعده ولا صحابته الكرام، ولا التابعون لهم بإحسان، وعليه فلا يجوز لأحد بعدهم أن يفعل في الإسلام شيئًا لم يفعلوه.
العمرة في رجب: إن من البدع المستحدثة في شهر رجب الحرص على أداء العمرة فيه، واعتقاد أنها أفضل من غيرها في رجب، وهذا العمل ليس له أصل في الشّرع ولم ينقل عن النّبي ﷺ أنّه اعتمر في حياته في رجب، ولم يخصص أحد من صحابته الكرام رجب بعمرة، ولم يقل به أحد من السّلف، والعمرة كأي عمل صالح مطلوب في أي وقت إلّا أن تخصيص رجب بعبادات لم تشرع لا دليل عليه.
والمعروف عن النّبي ﷺ أنه اعتمر أربع عمر فقط، وهي: عمرة الحديبية عام ست، وعمرة القضاء عام سبع، وعمرة الجعرانة عام ثمانٍ، والثلاث كن في شهر ذي القعدة، والرابعة عمرته مع حجة الوداع.
أحاديث موضوعه في فضل رجب:
وهذه بعض الأحاديث الموضوعة والتي تتناقل في فضل رجب حتى يتنبه لها القارئ ولا ينخدع بها أحد ممن لا يعرف درجتها من الصحة:
«رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي».
«من صام يومًا من رجب كتب الله له صوم ألف سنة، ومن صام منه سبعة أيام أغلقت عنه أبواب جهنم، ومن صام منه خمسة عشر يومًا بدلت سيئاته حسنات، ونادى مناد من السماء قد غفر لك فاستأنف العمل».
«إن في الجنة نهرًا يقال له رجب من صام يومًا من رجب سقاه الله من ذلك النهر».
«من صام ثلاثة أيام من شهر حرام كتب الله له عبادة تسع مئة سنة».
«من يبارك الناس بهذا الشهر الفضيل «يعني رجب» تحرم عليه النار».
وجميع هذه الأحاديث باطلة ولا أساس لها من الصحة.
المؤلفات عن شهر رجب:
تتابع العلماء على التأليف عن شهر رجب والتحذير من صيامه وعن البدع المحدثة فيه ومن ذلك:
“أداء ماوجب من بيان وضع الوضاعين في رجب” للإمام الحافظ عمر بن دحية المتوفي سنة (٦٣٣) رحمه الله تعالى.
«تبيين العجب بما ورد في شهر رجب» ، للحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852هـ) رحمه الله تعالى.
ذكر فيه الأحاديث الواردة في فضل رجب مع التعليق عليها وبيان حكمها.
“الأدب في رجب” للعلامة الشيخ علي القاري المتوفي سنة(١٠١٤) رحمه الله تعالى.
“إظهار العجب في بيان بدع شهر رجب” عقيل بن محمد المقطري.
“صوم شهر رجب بين المجيزين والمانعين” عبدالفتاح بن صالح اليافعي.
وعليه فلا ينبغي للمسلم أن يستحدث عبادات لم تشرع في شهر رجب ولا في غيره من أشهر السنة؛ فإنّ خير الهدي هدي محمد ﷺ ومن تبعه من سلف هذه الأمة:
وكل خير في اتّباع من سلفْ
وكل شر في ابتداع من خلفْ
عليك نور ؛ كفيت و وفيت ؛ جزاك ربي خيرا ونفعك ونفع بك
بارك الله فيك ونفع بك الإسلام والمسلمين ونفعك بهما