ملح الأرض

الكتابة عملية خلقٍ وإبداع، وهي ملح الأرض، وعملٌ انقلابيّ. والإبداع من الفعل: بَدَعَ ، وبدع الشَّيءَ: أوجده، ومنه قوله تعالى (بديع السموات والأرض ..) ونحن نذكر الكلمة الشهيرة عند آبائنا الخُلَّصِ في عروبتهم -قبل استعجامنا- وهي كلمة (بَدَعَ امْبانِي) إذا بدأ الباني في بناء جدار البيت .. ومنه (البِدْع) وهو: الكوز الفخاري الذي يوضع فيه العسل والسمن، وعنه قال النبي – صلى الله عليه وسلم-: (تهامةُ كبديع العسل أوله حلو وآخره حلو).

هذا عن إبداعية الكتابة..

وهي عمل انقلابي لأنها إما أن تغير أو تضيف قيما ومفاهيم، أو تحافظ عليها، سواء في أسلوب إيصال الفكرة أو في الفكرة ذاتها.. وقد كنتُ عشتُ تجربة حالة أميّةٍ خاصة شعرتُ خلالها بصحةٍ نفسية، بإيقافي، حتى رأى من كان على يديه قفزة حداثة صحافتنا (قينان الغامدي) أن منعي هناك وحينذاك غير منعي هنا والآن، فقررتُ ركوب صهوتها من جديد، لإثبات البراءة أمام خوف القرويين من الكتَبَة (خصوصا منهم الطيبين الذين رقصوا مع فتاوى من السند والهند). وهذه القروية هي نوع من عقدة النقص التابعيّة التي يعيشها القرويون دائما في أي وقت وفي كل مكان تجاه المتبوع، مما يؤدي بهم إلى تجاهل آرائهم وثقافاتهم وحرياّتهم، ولأثبت لكم هذه العقدة العامة لدينا، سأضرب لكم ما أتذكره الآن من أمثلة ومنها:

-عقدة النقص في الأسماء، فأنت تجد أسماءنا ذات العبق العربي المكاني الأصيل تتلاشى، حتى إنني أعرف علما من أعلام المجتمع اضطر إلى الخضوع لرغبة ابنته الجميلة شكلا وروحا واسما (رحمة) واستبدل اسمها إلى (سالي ..)، كما أجد كثيراً من أبناء منطقتنا يخجلون من كلمة (تهامة) إذا سئلوا من أين هم وخصوصا من الشباب الناشئة!

-تجدون في نفس الأمر شخصيات بارزة نعرفهم ممن استعار لاسمه (أل) التعريف، فبدلا عن (إبراهيم طالع) كان ينبغي عليّ حتى يأخذ الاسم وجاهته أن أضيف هذه (الأل) لأكون الطالع!

-عقدة اللباس عند المرأة، حيث نجد العالم يتسابقون في التفنن في ألبستهم التراثية على مسارحهم وأماكن عملهم ومناسباتهم، أما المرأة لدينا فلم نسمع أو نر من اعتدّت بثقافة المكان اللباسية أو سعت إلى تخليده رغم أن زي المرأة العربية غزا أوروبا وأمريكا وصار من أغلى ما تنتجه الدور المتخصصة..

-عقدة غياب المرأة تقليدا للغير رغم أن أمهاتنا الفلاحات والحاطبات والراعيات منذ العهد النبوي حتى أواخر القرن الرابع عشر الهجري لمْ يكنَّ عوراتٍ بهذا الشكل الذي نراه في نسائنا اليوم، مما جعل منهن مجرد كتلٍ جسمية معاقة لا حراك بها، والسبب هو عقدة النقص التي تقبلتْ ثقافةً مبنيةً على عادات وتقاليد بيئة -ما- لا على ثقافة دينية تنطلق من أغلب مذاهب الدين السمحة…

-عقدة التقليد الأعمى في المناسبات مهما كانت ظروف صاحبها..

-عقدة التقليد في الشعر الشعبي الذي يعد نبض حياتنا، فلا تستبعدْ أن تسمع أحد شعراء جبالنا الرائعين يضمّنُ منظومته الشعرية بجملة من بقايا (النبطيّة) ليوازي غالبا بأمره غنى له المطرب محمد عبده مقابل ثلاثة ملايين ريال.

-عقدة التقليد الخطابي المدرسي المتخلف الذي أحال (الرِّدَّة) بعبقها وفصاحتها وأصالتها وجمالها إلى خطبة منبرية من المحفوظات المملولة على كل منبر وفي كل إذاعة مرئية أو مسموعة، لأن كبير القوم اعتقد عندما قدموه أنه سحبان وائل (الذي انتحلتْ خطبه ضمن نحل الأدب) دون أن يدرك أنهم قدموه لما يأملونه منه في أداء ردّة القوم بشكل يليق بثقافة وقيم المكان، ولكم في بقايا عظمائنا بأريافنا وقرانا إذا تحدَّثوا أسوة!

– كما لكم أن تضيفوا كثيرا هنا من عقد نقصنا كما تشاءون ..

دعونا نقترف ذنوب الكتابة عن عيوبنا وعقد نقصنا، ونتواصل إبداعا ونقدا وحوارا وخبرا وتاريخا وتأريخا ..

صدقوني: نحن في زمن حرية لم يكن يحلم بها من يفقه معنى الحرّيّة! فزمن إيقاف الكتبة صار يأتي بطريقة خجلى لا يريد صاحب القرار فيه أن يظهر، فوزارة الثقافة تعلن دائما أنها لا توقف كاتبا، مما صار يضطر صاحب المصلحة في الإيقاف إلى الأمر الشفاهيّ، وهذه خطوة جيدة نحو حرّيّة الرأي تُحمدُ للزمن..

اكتبوا كتابة غير (جوجلية) منطلقة من قضايانا ومن ثقافاتنا وملح أرضنا، وتحرروا من عقدة التابعية القروية النائية حيث لم يبق نأي في الكون ..

وتخلفني عليكم العوافي ..
>

شاهد أيضاً

حالة الطقس المتوقعة اليوم الثلاثاء

صحيفة عسير _ واس توقع المركز الوطني للأرصاد في تقريره عن حالة الطقس لهذا اليوم …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com