أدبيات الحفيد والجد

لقد زارت بيتنا هذا الأسبوع أصغر زائرة في محيطنا، بوزن لا يزيد عن ثلاثة كيلوجرامات، وعمر لم يتعد الثواني، ورغم ذلك فقد كانت محملة بالهدايا الكبيرة والنادرة، التي لا يمكن أن يُقدر قيمتها إلا من حُرم منها، فأهدتني هذه الصغيرة لقباً عظيماً لم أكد أصدقه، ولم أستوعب زخارف معانيه وروعته وجماله حتى الآن، نعم، فقد خصتني بلقب (جَدّ).

كما لم تنس أن تُوزع باقي هداياها المُبهجة على أفراد الأسرة، فهذا أبٌ، وهذه أُمٌّ، وهذا خَال، وهذه خَالة، وهذا عَمٌّ، وهذه عَمة، وتلك جَدة!.

هدايا لعظمتها وروعتها جعلتنا لا نعرف هل نضحك أو نبكي.

والجَدُّ يظل بعيداً عن حَفِيدهِ من ناحية السن، وبفارق لا يقل عن جيل ونصف أو جيلين من الزمان، هذا إذا اعتبرنا أن الجيل في حدود الثلاثين عاماً، ورغم ذلك فإن العلاقة بين الطرفين تكون أقوى من كُل العلاقات، ففي صيغة الحَفِيد تتكشف الفطرة، والبراءة، والصدق، والخِفة، والدهشة، والدلالُ، والطمع، والجذب، والحُب النقي المحتاج للدعم، وفي صيغة الجَدّ تتكامل معاني الحِرص، والعَطاء، والحُضن، والثقة، والتدليل، والحُب بلا حدود ولا ترجمات.

والحَفِيدُ لا يمكن أن يتلقى من زخات الحب أصفى ولا أكرم، ولا أكبر مما يهبه الجَدُّ في حياته، والجَدُّ على الجانب الآخر، بخبرة السنين، ومقارنة العقل، واستحلاب العواطف يجد عُمره في حَفِيده، ويستحضرُ طفولة أبنائه بين يديه من جديد، ويستعيدها بالصورة البطيئة، فيضخ في تلك العلاقة خلاصة ما عرف وجرب وسمع ورأى، ويعوض ما فاته، ويصلح كل الهفوات، التي حدثت في علاقته بأبنائه، ويحاول أن يصنع أنموذجاً متكاملاً مميزاً، يضاهي الكمال.

الجَدُّ بهبة الحَفِيد يشعر بأن الله يحبه، وأنه يهبه فرصة أخرى، بشكل أكثر متعة، وأكثر ثقة، وبتربية تتحقق من خلال تربية، ومتابعة من رأي عقل حصيف، وقلب رؤوم، ليشعر بأنه لا يزال موجوداً، وأنه لن يخرج من الدنيا إلا وقد ترك الأثر الأمثل من خلفه.

الجُدودية عصور من المشاعر، تكفي لآلاف الأشخاص، ولكن الجَدَّ يفعل المستحيل ليخص بخلاصته هذه الفلذة الصغيرة، من كبد الكبد.

والحَفِيد متلق منفتح كالسماء يستقي الفرق ويستمتع به، خصوصاً لو كان بتخطي القوانين.

وبصراحة متناهية أن تلك الحادثة قد جعلتني أسأل نفسي، هل حقاً أخشى من العُمر، وفي نفس اللحظة، أعطتني ثقة بأني أسير على الدرب السليم، وأن حياتي رحلة بل نزهة جميلة، وأن عليَّ أن أتمتع بما فيها من مُتع، وأن أتلمس ما فيها من الجمال وأحاكيه، وأن أشرع بوابات قلبي المُحب، لتتكدس شلالاته في مصاب نهر الإنسانية العظيم.

وقد تجولت في التراث فلعلني أجد ما يُلملم مشاعري ويبلورها، بكلمات صاغها الأجداد عن أحفادهم، أو الأحفاد عن أجدادهم، ولكني دهشت بأن الأدب العربي قاصر في تصوير تلك العلاقة، وأنه بالكاد اكتفى بالمثل، الذي حفظناه عن ظهر قلب (ما أعز من الولد إلا ولد الولد)، وهي حكمة جميلة قالها أحد الأجداد، ولكنه لم يُكمل، واكتفى بها الآخرين من بعده، فلم يقم جَدٌّ آخر بمضاهاتها، شعراً أو نثراً، مما يثبت أن أدبيات العلاقة بين الجَدّ والحَفِيدِ غير ناضجة، فلم يهتم بها الأدباء كثيراً، ولم يحاولوا عرضها بشكل يتلاءم مع قيمتها الثرية بالمعاني. كما أن أهل الطرب لم يأتوا على ذكر الحَفِيد إلا لمماً، وهذا أمر حري بالبحث والنقاش، فلم نسمع (صباح)، تغني (حبيبة جدتها، يا أخواتي بحبها)، ولا ترنم (وديع الصافي) (الله يرضى عليك يا حَفِيدي)!.

كما أننا لم نسمع من الأحفاد من تغنى بحب الجَدّ، إلا ما ندر، وهنا تتكاثف الأسئلة، فهل تطوى تلك العلاقة بساتر من الخجل، وتهرب من وجه السنين؟. وهل هذا بسبب طبيعة مجتمعاتنا، التي تقرن بين العُمر والقبر، مما يجعل البعض يتحاشى التصريح بأنه أصبح جداً.

لماذا تظهر هذه العلاقة بازدواجية في حياتنا، فنتمتع بها كثيراً في الخفاء وفي حياتنا الخاصة، ونحاول نكرانها في العلن والإشهار!.

أنا هنا أعلن على الملأ أن هدية حَفِيدتي الأولى قد وصلتني، وشحنتني بالسعادة والحبور والأمل والنشاط، وأني سأكتب فيها من الشعر والنثر قدر استطاعتي، بل سأغني مع (ديما)، ولها في كل يوم من أيام حياتي، لأني ببساطة أقدر نعم الله وأحمده عليها، وأتمنى من زملائي في (اللقب)، من الأدباء والكتاب أن يسمعونا أجمل المقطوعات للأحفاد.>

شاهد أيضاً

سكر الأجاويد في نهار رمضان

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com