الكاتب : علي الموسى
في وسط عالم متغير، بزعمي أن الخريطة العربية السياسية استطاعت الصمود تماماً لأكثر من مئة سنة. شكراً لـ”سايكس بيكو” رغم كثرة اللوم. ومن الغباء التاريخي والسياسي أن يعتقد فرد على الخريطة العربية السياسية أن هذا المخاض السياسي الذي يعصف بهذا العالم العربي سينتهي مثلما كان: بضعة وعشرين علماً أمام بوابة جامعة الدول العربية. من الغباء السياسي أيضاً، أن يعتقد فرد أن هذه “الفوضى الخلاقة” من سني الربيع ستنتهي لمجرد تغيير أنظمة أو استبدال زعماء أو الإطاحة بأنظمة وحكومات. الحقيقة الصادمة في وجه قراءة المستقبل المنظور ليس إلا أن الخريطة العربية، ورغم كل الظروف، قد استطاعت الثبات والصمود لأكثر من قرن من الزمن وهذه قراءة في الجغرافيا السياسية تقع على رأس عجائب الدنيا: أن يصمد القابل تلقائياً للتغيير في مقابل انهيار القابل للثبات والصمود من الخريطة السياسية الكونية، ومرة أخرى، سأعود للكلمات الأولى في رأس المقال: أي انفجار “جغراسياسي” هو ذلك الذي يكون في القادم من الزمن القريب لأقدم الخرائط السياسية ثباتاً في القرن الأخير رغم أنها من اليوم الأول لبناء هذه الخريطة، أقرب الخرائط إلى التغيير والتقسيم والتجزئة؟
كيف صمدت هذه الخريطة كل هذا الزمن الطويل رغم أنها خريطة الأديان المتضادة، والأعراق المتباينة مثلما هي خريطة المذهبية المحتقنة وأيضاً خريطة القبيلة المتناحرة؟ هي الخريطة السياسية للجغرافية العربية ذاتها التي درستها لأول مرة قبل أكثر من أربعة عقود في الرابعة الابتدائية ومازالت هي الخريطة السياسية ذاتها التي يدرسها ابني الصغير اليوم في رابعته الابتدائية، وهنا للمفاجأة وللدلالة هذه الدلائل المضادة لهذه الصيرورة من تحالف التاريخ والجغرافيا: خلال مئة عام خلت من ولادة معاهدة “سايكس بيكو” ولد على هذه الأرض بالإحصاء الرسمي 67 علماً ودولة، وكلها حصلت بالتوقيع الرسمي على شرف الانتماء لمنظمة الأمم المتحدة. ومنذ دراستي لأول خريطة في حياتي عند الرابعة الابتدائية في العام 1976 تقول أرقام الشيخ “جوجل” نفسه إن ما يقرب من 54 دولة وعلماً جديداً قد شهدت يوم الولادة فيما مازالت الخريطة السياسية العربية صامدة رغم أنها الأقرب للانفجار والتغيير ولكنها صمدت بفضل قبضة الحديد والديكتاتورية. تقول نفس المعلومات إن أوروبا وحدها قد شهدت مباشرة بعيد انهيار جدار برلين ولادة 13 دولة جديدة وارتفاع 15 علماً جديداً لعرق أو قومية جديدة في قلب الخريطة الجغرافية السياسية الأوروبية وإن الفترة ذاتها منذ عام 1990 قد شهدت انضمام 23 دولة جديدة إلى نادي الأمم المتحدة.
إذاً هنا السؤال: ما الذي يجعل أقدم خرائط الكون وأكثرها تباينا واضطرابا، وأعرقها أديانا ومذاهبا نشازا عن الخريطة الكونية في الانقسام والتشرذم؟
وخلاصة الدرس التاريخي تبرهن أن كل قبضة حديدية من الديكتاتورية لابد أن تتكسر في النهاية إلى خرائط جديدة لدويلات لأعراق وشعوب وليدة جديدة. هذا حدث بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهذا حدث أيضاً بعد قبضة “تيتو” التاريخية ومثله حدث في شبه جزيرة البلقان.
ثورات الشعوب المختلفة في “العصب” القرائي لمسيرة التاريخ تبرهن على الدوام على أنها ثورات عرقية أو مذهبية دينية. ثورات تهدف للاستقلال وهذا ما يفسر الحتمية التاريخية من أن دول العالم ازدادت بأكثر من 100% بعد إنشاء هيئة الأمم المتحدة. وأنا لا أكتب اليوم أبداً ولادة دولة داعش من حلب إلى الموصل لأن هذه ولادة هلامية طوباوية لا توجد لها قاعدة صلبة على أرض الجغرافيا السياسية، ولكنني استقرئ القادم الحتمي من تفكك الخارطة العربية التي ستصبح معها ما يسمى بمؤامرة “سايكس بيكو” أملا ومثالا وحلما من زمن غابر منقرض. كل المؤشرات تقول أن أقدم خرائط هذا العالم، ممثلة في عالمنا العربي، جاهزة تماماً للتوالد إلى أكثر من الضعف من الموجود الحالي، وكل الغرابة المثيرة للدهشة إن هذه الخريطة من أم العالم التي نامت، كما هي، منذ مئة سنة، هي التي ستكون أيضاً في العقد القادم فقط مختبراً معملياً لثورة التحولات الهائلة على الخريطة السياسية العالمية… وسترون.>