فايع آل مشيرة عسيري
بين مساريب قريتي المظلمة حيث خطوات أبي وقدماه النحيلتان خلف فانوسه الأحمر ما زلت أبحث في تجاعيده التقية النقية عن «حي على الصلاة»، «حي على الفلاح»، هناك تتوق بي أصوات مؤذنينا الراحلين، الباقين في ذاكرتنا وإن رحلوا!
في رحلتي ما زلت أبحث عن وجوه غيبها الزمان، حيث لم يبق سوى المكان يقض مضاجع عيوننا، يا لهذه الوجوه ويا لهذه القلوب ترحل وتتركنا للحزن يعتادنا كل عام فنقبع تحت جذوة الحسرة نتجرع علقم الألم!
رمضان الذي نستعيد معه ذكرى رحيل أمي عن وجه الدنيا قبل 16 عاما ! يحل رمضان هذا العام ضيفا كريما عزيزا يخيط من عيوننا رائحة الجدات وعادات الطيبين.
يرمضون مع أولى ليالي رمضان كأنهم يعلمون بأنهم سيرحلون عنا للأبد! يبتسمون لرمضان حتى تخالهم القلوب التي يأتي من أجلها رمضان، ويسافرون في حكاياتهم الموغلة في ماضيهم بكل تناقضاته ومفارقاته بكل ذكرياتهم!
نتسمر أمام أحاديثهم وتفاصيل حكاياتهم فلم يكن أمامنا غير القناة السعودية الأولى وصلاة الحرم، حتى قريتي كانت أكثر جمالا ووسامة في عيونهم وفي حضورهم في خطواتهم تشعر بنفحات إيمانية كلما واصلوا الدعوات والدمعات والابتهالات والتراتيل.. تراهم يقطنون بكل شخوصهم في مغرب أول ليالي رمضان !
قريتي التي أصابها الفقد والحسرة والندبة بعدهم ولكنها تحاول أن تكابر على أوجاعها وتسمو فوق رثاءاتها كي تستقبل رمضان في الوقت الذي بكيتها كما بكيت عادات وتقاليد أهلها وجمعتهم وأنسهم ونكاتهم، هناك ما زال إفطارهم لم يتسنه وأطباق الحارة تدور إلى سابع جار!
يخيل لك بأن رمضان يجمعنا قلبا وروحا وروحانية وتعاضدا وتكاتفا، نبضا وطعاما وشرابا وليست عبارة دعائية في فاصل قناة لا تريد إلا كسب الكثير من الأرباح المادية!
وفي الفراق يعرف الحزن أهله وللحزن وطن آخر! خطواتي المثقلة بالحنين والهجير وعجاج الظروف وهجرة الأوطان ما زلت في غربتي أقضم كسرات خبز يابس أبحث عن لحافي وعن قافلة توصلني قريتي فما زلت أتقصى الأثر على خطى راحلين مغادرين، أجدني أستجدي ذاكرة طفولة لا تنسى وامتطيت صهوة الظلام في قريتنا القديمة شمالا، حيث الإيحاء والأثر وأهلها الذين واروا أهلهم ثم استفاقوا فرحلوا للبعيد هناك حيث يسقط الشفق على تجاعيد الأمكنة وأرواح الأزمنة!
أطوي صفحة ماض كان يقرأ القرآن ويوزع حبات التمر ويتشبث برمضان يلتحف بإحرامه الأبيض يناجي ربه ويتضرع في خشية وبكاء كأننا نودعه أو كأنه يودعنا.
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
رمضان يبقى هادئا في قريتي إلا حين نرى الفانوس والقمر وحكواتي قريتي أطال الله عمره والرجل الذي غاب عن قريتي طويلا حتى تغيرت ملامحه وبات غريبا لا يعرفه أحد، وحين عاد في رمضان رحل مع رمضان .
ومضة :
يحل علينا رمضان ونستعيد معه كثيرا من روحانياته وإنسانياته نشعر بالراحلين والمساكين والمرضى ونستعيد معه شيئا من إنسانيتنا.>