المرأة ليستْ ترَفاً..

يلحظ المتابع لقضايا المرأة على مستوى العالم أن الحديث هو عن حقوقها لا عنها، سوى لدينا! فالتركيز لدى البشر هو عن تطوير ما لها من حقوق، وليس التركيز عليها كقضية، أما لدى الفقه المتصحّر (أو ما اسماه الشيخ محمد الغزالي بالفقه البدوي في كتابه عن السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث)، فالتركيز عليها هي كقضية! لذا كانت قضاياها لدينا مختلفة تناقش أحقّيّتها المطلقة في العمل وأشكال اللباس والتصرف والحركة الطبيعية كقيادة السيارة، والعمل الحر في الأماكن العامة. ويقنِّنُ العالم قوانين ضدّ التحرّش بها، بينما يطاردون هنا وجودها في المجتمع المتحرك كالأسواق وأماكن العمل، ويعدّون مجرد وجودها تحرّشاً، فقضيتها لدى هؤلاء هي في الوجود، ولم يصلوا إلى مستوى التفكير في تقنين قوانين ضد التحرش بها في ضوء أساسية وجودها! وقد يعود ذلك إلى أسباب أوجزها فيما يلي:

• إضافة إلى جذور الفقه السابق الذكر، وبقايا فكر ترَفِيّة المرأة كنوع من الترفيه لأرباب قصور الخلافة المتعاقبة، حدثتْ لدينا طفرة ورقِـيّة نقدية زائفة جاهزة منذ عقود ولم يزَل أثرها السلبي الحياتي، أدّتْ إلى تسخير العمالة بديلاً غير طبيعي للمرأة في شؤون الحياة العملية، مما أقنعها آنذاك بأنها كائن مخدوم غير مطلوب منه العمل والإنتاج، وليست سوى ترفٍ تكاثريّ وحياتيّ يجب بقاؤه في الحفظ والصون، وخصوصاً لدى الأثرياء والمتنفّذين، دون حساب بأن زمن حاجتها إلى العمل وحاجة المجتمع الطبيعي إليها سيعود، ثم فوجئ هذا الصنف الغريب بزمان ضرورة عملها وحياتها الطبيعية.

• تنظيمية ذلك الفكر في ضوء الطفرة ذاتها، وشعور أصحابه بأنهم الوحيدون من يمثّلُ الدين الصحيح، مما أشعرهم بأنهم ذوو سلطان على الآخرين، خصوصاً أنهم مُنحوا هذه السلطنة -ذات زمن- ثم شعروا بأن الزمن بدأ يزيح عنهم غشاوة وهم هذه السلطنة.

• عدم وجود قوانين ودساتير في بعض الدول التي تعاني من هذه القضية، مما أتاح الفرصة لكل من هبّ ودبّ بالتزاحم على ما يطلق عليه حسبة تارة وأخرى فتيا، دون أن يكون هناك سقف تقف عنده هذه التصرفات، وصار لكل من أراد أن يحتسب ويفسر احتسابه بحسب فهمه، غير مؤطر بقوانين عامة، ودون الإفادة من وعي أخطاء هذه التحريمات باسم الدين كلما طرأ في الحياة جديد.

• حاجة البشر فطرياً إلى التّحزّب والانتماءات، مما يدعو بعضهم إلى تشكيل هذه الجماعات المحتسبة في الملتقيات والأماكن العامة والعمل، خصوصاً في ضوء عدم وجود القنوات الاجتماعية المشروعة لدينا، ومن لم ينتمِ إلى هذا الفكر من الشباب فسيضطر إلى الانتماء لجماعات (التفحيط والدّرْباويات) وغيرها.

وتتفاوت لدينا أقاليم الجزيرة في هذه الظاهرة الغريبة، فتزيد وتتضح أكثر جلاء في المناطق الصحراوية التي ورثت أصلاً فكرة (ستر المرأة الكلّيّ) بأسباب بيئية قديمة تعود اجتماعياً إلى الطبيعة الصحراوية المكشوفة التي أسهمتْ تراكمياً في حجب المرأة ما أمكن، ثم طُوِّرَتْ حديثاً بتفسيرها دينياً. وبحكم امتداد هذا النفوذ باتجاه جنوب الجزيرة استوت بقية الأقاليم بالإقليم المهيمن تقليداً وتطويعاً لا بسبب بيئي طبيعي. أما إقليم الحجاز، فنظراً لما يتمتع به عبر تاريخه من حصانة الثقافة المنفتحة على ثقافات العالم الإسلامي، وطبيعة وتنوع تركيبه السكاني، فقد رسخت فيه هوية ثقافة إنسانية المرأة بشكل عاديّ لم يتأثر كبقية الأقاليم بتلك العادات التي قُولِبَتْ في قوالب من الدين، وبقيت شخصية المرأة هناك فاعلة في الحياة والإنتاج وأحقّيّة الظهور عبر الزمن وحتى عبر عقودنا الخاصة التي أشرتُ إليها.

من خلال ما مضى، وتحت هذه الظروف، نجد قضايا الصراع الذي نشهده يومياً بين فكرين: فكر يرى أنّ المرأة ليستْ سوى ترفٍ يجبُ الحفاظ عليه من الظهور وحريّة الحركة والعمل، وفكر يحاول تحريرها من هذه الترَفِيّة بالعمل والظهور والحركة والبحث في حقوقها لا الاقتصار على أنها قضية في ذاتها. ومن أواخر الأمثلة الطريفة التي سيسجلها الزمن كما سجّل لنا طرافة زمن منع المرأة من التعليم، وطرافة تحريم السيارة والراديو ثم الأجهزة المتتالية حتى هاتف الكاميرا، من آخر هذه الأمثلة: ذلك الوليّ الذي تسبب بدعوته على القصيبي -رحمه الله- في إصابته بالسرطان إنقاذاً للمرأة من العمل. ومن تلك الأمثلة: أولئك القوم الذين لم يطيقوا رؤية النساء في صالة عامة أدبية في نادي جدة الأدبي، فأحالوا ليلة الأدب إلى ليلة عن مشروعية وجود المرأة!

ومنها: ما تقابله وزارة العمل من هؤلاء الذين يناصحون ويناقشون في عمل المرأة، لا في أساليب سن القوانين ضدّ التحرّش أسوة بالعالم الذي لم يعدْ يخاف من بعبع المرأة، بل سنّ لها قوانين تحميها من التّحرّش في ضوء حياتها الطبيعية.

أما الحقيقة الجلية، فلا تكمن في التقنين ولا في العادات التي لبست ثوب الدين، بمقدار ما تكمن في إرادة المرأة نفسها، فلا أعتقد أن هناك قوة تملك إجبارها في الطريق على تقنيع وجهها طالما كلهم يعلم أنه دينياً ليس بالعورة، أو إخراجها من مكان عام طالما هي إنسان عاديّ لا يشعر بنقصه ويملك التمسك بحقّه وأخذه دون انتظار أحد أن يمنحه هذا الحق، والدليل هو ما حدث في نادي جدة عندما حمى القانون حريتهن وتمسكن هنّ بها تمسّكاً قوياً أدّى إلى مغادرة من لم يحتملْ وجود ورؤية المرأة التي لم تكنْ هنا ترَفاً بل إنساناً.
>

شاهد أيضاً

الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة

صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل :  انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com