عقوق السنابل..
فاطمة سعد الغامدي
فتحت عينيها على وجهه (علي ) ابن الجيران فهو يكبرها بعامين
البيوت في القرية ملتصقة ويتقافز الصبية من فوق أسطح المنازل دون العبور من المسارب الضيقة والتي قد تستهلك وقتا خاصة في الليل حيث الظلام كثيفا
علي فتى في السابعة من عمره ذكي جدا نشيط قوي البنية مرح مقبل على الحياة محبوب من الجميع
أما خضراء فلا ترى قيمة للحظات عمرها أن لم يتبوأها علي
كان الأهل يرسلون عليا وخضراء لقضاء بعض الأمور أو لايصال رسائل شفوية الى العوائل الأخرى وحتى العوائل التي تقطن القرى المجاورة كانا يمضيان متماسكين بالأيد ي يضحكان ويلعبان ويصطادان الفراشات الملونة ،وقد يشاكس علي العصافير المعلقة في أعشاشها أو الطائرة بالقرب منهما لكن خضراء تنزعج من ايذاء العصافير مما يجعله يكف عن ذلك
في القرية يلعب الأطفال أطول فترة ممكنه دون رقيب يحد من طفولتهم أو ينبت العقد في أغصان نموهم
في هذه القرية الخضراء لاتعرف أي فصول السنة يحتفلون بها
أهو الشتاء ، حيث تلتحف الطرقات الثلج والبرق يعانق النافذة والمطر يزرع الدفء ويتضاحك الاطفال وهم يراقبون تصاعد البخار من أفواههم
بينما يعصف الرعد وتجتمع القلوب وتقترب الاجساد وتصطف دلال القهوة والشاي والزنجبيل حول المدفأة
أم الربيع حيث تعبق ورود الجوري ، وتشتعل ازهار اللوز على الاغصان مع انبثاق الصباح ويسقط المطر غزيرا فيحفر الأرض ويشوه معالمها خلافا لمطر الشتاء الغزير لكنه لايهدم المباني ولا يحفر الطرقات
وشمس الربيع خافته تتسلل في هدوء فتخرج الحيات والعقارب والحرباءوالحشرات عامة تتمدد فوق الحشائش الخضراء مكتسبة اللون الاخضر فلا تشعربها الا وقد سقطت بين أقدامك تبحث عن طريق للفرار
شمس الربيع ممرضة وينصح الكبار بعدم التلذذ بمداعبتها للأجساد والتشمس تحتها في باحات المنازل او الطرقات اوعلى أسطح المنازل وخاصة للنفساء والناقهين
أو الخريف الذي فيه يحرث المزارعون أراضيهم ويبذرونها حيث تتهيأ للحصاد في الصيف
الصيف فصل يتعب الناس فيه كثيرا فعلاوة على الارتفاع في درجة الحرارة قليلا فهم يحصدون
حيث ينتشر الناس رجالا ونساء في المزارع وترتدي النساء الملابس الملونة والشراشف البيضاء
ويعاون الناس بعضهم بعضا فيبدأون بمحصول أحدهم وهكذا ينتقلون الى محصول الثاني والثالث حتى آخرهم
أما العوائل الكبيرة فلا تحتاج معاونة الا فيما ندر وقد يستأجرون بعض المقيمين لمساعدتهم مقابل مالا بسيطا وكيسا من الحبوب وكيسا من التبن لمواشيهم
العوائل الكبيرة عادة أخوة كل منهم لديه زوجتان وابناء كثيرون
يبدأ الناس في الحصاد مرتفعة أصوات الرجال بالأهازيج الجميلة ويرد بعضهم على بعض ويتناولون اخبار الأولين وقصصهم وأساطيرهم
كانت بعض النساء تبقى في المنازل لاعداد الطعام وحمله الى المزرعة ليجتمع الرجال في جهة وتجتمع النساء في جهة أخرى
وكان علي وخضراء ممن يحملون الطعام والقهوة والشاي والماء الى المزارع
ويحملون حزم الحصاد الى اسطح المنازل
كانت خضراء تتلكأفي العمل أحيانا داعية علي الى الجلوس والراحة قليلا فالعمل شاق والأهالي لايرحمون كان يستجيب علي لها قليلا ثم يدعوها للنهوض ومواصلة العمل أسوة بالجميع فتمضي على مضض
وبعد الحصاد تبدأ العوائل في درس الحبوب وفصلها عن التبن بواسطة المواشي كالثيران وربما الحمير
حمى الصيف لاينجو من شرها الا القليل حيث يسقط الناس على فراش المرض
لكن الطرقات تسكن ويقل المارة ويرتاح الناس من تعب الحصاد
وهكذا تتجدد الفصول يستقبلون أطفالا ويودعون التراب أحبة لهم
ومما يقلق في هذه القرية أن أكثر الموتى ممن يسقطون في البئر
او ممن تجتاحهم حمى شديدة فيموتون
وبلغ علي العاشرة من عمره وتناهى إلى مسامع الناس خبر فتح مدارس جديدة للبنين
فقرروالد علي الاتجاه للمدرسة من يوم غد لتسجيل علي
وهكذا كان علي من أوائل الملتحقين بالمدارس النظامية في هذه القرية فهو في الصف الأول ابتدائي في العاشرة من عمره
كان علي منبهرا بما يرى ، وما وجده لقد اكتشف أن العالم أكبر من قرية صغيرة وأنّ العلم أكثر اتساعا من مجرد بضعة أساطير ترددها الجدات وأن الأمور تسير بمنطقية
تعلم الحساب والقراءة ونصوص جميلة ،فها هو
يجمع الصغار عندما يعود مساءَ ويرددها معهم وكانت خضراء أكثرهم حفظا لها واتقانا
لقد نجح علي بتفوق في نهاية العام فأهداه والده نعجتين وحمارا يتنقل عليه ، وهكذا مضت الأيام تلو الأيام وعلي ينجح بتفوق يلفت الأنظار وينال الإعجاب ودبت الغيرة في قلوب المعلمين المتعاقدين
وأحسوا بالخطر على وظائفهم فعلي الآن في الصف الثالث المتوسط وبعد عام سيصبح معلما ومن ثم مديرا وسيكون حريصا على مدرسته وستتقلص أدوارهم وفرصهم في حصص التقوية والمقصف المدرسي لكنهم لا يعلمون ماذا يفعلون
وحل بالمدرسة معلم جديد من إحدى المدن الكبرى ، سر به علي واقترب منه كثيرا
كان الأستاذ مسلم يكيل النصائح كثيرا لعلي سيما وقد لاحظ ذكاءه ونباهته فنصحه بعدم التوقف بعد انتهاء المرحلة المتوسطة بل مواصة التعليم العالي فدهش علي ولم يكن يعلم ان هناك مجالا للتعليم أوسع مما هو عليه الآن ،فالعلم يحمل الناس من السطحية واللامبالاة إلى آفاق رحبة
كان يوم نجاح علي يوما غير عاديا بالنسبه له ولأهل قريته
فامتطى حماره وسار في الطرقات والاطفال يركضون عن جانبيه يصفقون ويكبرون ويهتفون: على ابن قريتنا الأول على المدرسة
حمل علي شهادته وهرول إلىوالديه يقبل رأسيهما ويشكرهما على مابذلاه من أجله
وفي المساء اجتمع أهل القرية في المسجد ليعينوا عليا إماما للمسجد وخطيبا
وكانت دهشتهم بالغة عندما اعتذر علي في هدوء وحكمة
حيث أنه سيسافرإلى إحدى المدن الكبرىر ليواصل تعليمه العالي واعدا إياهم بالخير إن شاء الله بعد عودته من الدراسة
لم تفلح محاولات والدته في كفه عما اعتزم عليه وبكت كثيرا كما بكت خضراء في سرها
كان يوم السفر كئيبا على جميع أفراد القرية ، خرجوا إلى نهاية القرية حيث سيمتطي سيارة أجرة يسافر فيها وحمّلوه هداياهم وأطعمة مختلفة كالخبز والسمن والتمر والبن والهيل والدقيق وغيرها
كانت أمه تبكي ويغشى عليها بين الحين والآخر وقد تجمعت النساء حولها مطالبات إياها بالدعاء له والفخربه
كان يوما خاليا من الحياة هكذا قالت خضراء ومضت ترسم فوق الطين أحلامها
مر شهران على سفر علي الى مدينة الرياض للدراسة
ولم يرسل حتى الآن رسالة بريدية أوحتى بواسطة أحد العائدين من الرياض
ذرفت والدته الدموع سخية بين يدي والده قائلة سمعت أنّ ولد بن مسفر سيأتي اليوم من الرياض أرجوك تأكد من ذلك
لم يشأ أبو علي أن يكون أداة طيعة في يد زوجته لكنه كان يتلهف لسماع أي خبر عن علي بأي طريقة ،
قبل أيام، دعاه شيخ القرية قائلا: تعال- سيتصل علي بعد ساعة –من الرياض ،وهرع أبو علي ومرت ساعات وساعات ، ولم يتصل علي —وقد أزعجا مأمور السنترال بين الحين والآخر وهما يرجوانه بتحويله فور اتصاله ،
عاد أبوعلي مطأطيء الراس يسكب الدموع السخية وقد أسدل الليل أستاره فيبكِ من يشاء حيث لا تميز في الظلام الدامس بين من بكى وممن تباكى
أسرع أبو على إلى بيت بن مسفر سائلا ابنه مسفر عن أخبار علي
لكنه لم يأتِ إلا بالقليل فعلي يسكن بعيدا عنه وقد أصيب بانفولونزا قبل اسبوع وقد أصبح بخير الآن
تقف خضراء بالقرب من الباب تتصنت أخبار علي كسارقة
فهي لا تجروء على البوح بمكنونات قلبها
الله الله ياعلي : هذه الطرقات والمسارب والعصافير وأفراخ الحمام والهواء والماء والسنابل تفتقدك
فمن هي خضراء بين كل هؤلاء ، إلا شقية سقط قلبها ذات ليلة بين يديك
لم تكن خضراء تجروء على أن تحدث نفسها بهكذا حديث وهاهي اليوم تكاد تصرخ باسمه
كتمت شهقتها ومضت الى فراشها باكية
كان ابن الجيران ذلك الفتى الشقي الذي يستعيذ الناس من شره صباحا مساء ، وتصرف الحوامل وجوهن باتجاه آخر كي لا يبتليهن الله بمثله
حيث لم ينجو من بطشه طائر أو غصن شجرة أو طفل صغير أو فتاة
يقذف بيوت الجيران بالحجارة ، ويبطش بمن يمربه صغيرا كان أو كبيراََ
هذا الفتى ((الجني )) كما كان يلقبونه في هذه القرية فتح عينيه على وجه أمه ، تعلق بها وتعلقت به
كانت تبكي كل ليلة حتى تشرق الشمس شاكية الى المولى هجر زوجها وابن عمها لها دون ذ نب ، فقد حدثت مشادة بينه و بين أخوانه
ولم ينصفه والداه كما اعتقد فسافر دون سابق انذار الى الخارج منذ عشر سنوات ولم يعد حتى الآن
والأخبار القادمة من هناك تنبيء بأنه مازال على قيد الحياة
كان هذا الفتى ((الجني )) يصرخ راكضا حاملا بيده ظروف رسائل
ياعم أبا علي
علي أرسل رسالة — علي أرسل رسالة
احتضنته أم علي لأول مرة في حياتها ونقدتة خمسة ريالات كادت تقضي على ماتبقى من لبه وحملت الرسالة الى أبي علي في المزرعة
كان ابوعلي يقص على زوجته مضمون الرسالة بعد أن قرأها إمام المسجد الشيخ عطية
قبلاتي الحارة الى كل مسام حب في وجه أمي ، إلى قلبها الطاهر ونبضها الدافيء وخبز يديها الحانيتين
والى سندي ومصدر فخري واعتزازي أبي الحنون الطيب الذي منحني النجاح والطموح
والى إمام المسجد وصالح المجنون ورتوسلاتي الحارة الأتسمحوا للأطفال بقذفه بالحجارة وأغسلوا ملابسه وامنحوه طعاما وحنانا
وأم سالم (العمياء ) تعاهدوا بيتها بالزيارة والنظافة
وبلغوا تحياتي للعجوز (عطرة )–و كل ابناء قريتنا فردا فردا وخضراء الطيبة بنت أبي سعيد
هل تزوجت أم لا ؟
وهل مازالت تتذكر أيام طفولتنا الشقية ؟
كانت خضراء تضرب الأرض بقدميها استياء وقلقا وحيرة .
ترى ؟ ماذا يقصد بهل تزوجت خضراء أم لا ؟
ايريدني ؟أم أنه يريد الخلاص مني
ابتلعيني أيتها الطرقات التي ضمت نبضاتنا ذات طفولة
ترى ماذا يقصد بهل مازالت تتذكر طفولتنا الشقية ؟
أيشتاقني كما أشتاقه ؟
أم انها املاء رسالة ؟
ولم جعلني آخر من سأل عنه ؟
كان الشيخ عطية يرفع الأذان للمغرب فانتابتها قشعريرة وخوف ووحشة وعادت كئيبة الى منزلها تندس في أحضان ليل القرية كاتم الأسرار ومجفف الدموع وعندما يأتي الصباح فليكن مايكون
وبعد مضي عام عاد علي لقضاء اجازة نهاية العام الدراسي مع أسرته وأهل قريته
يالسعادة والديه –والقرية– وخضراء
الشمس ذهبية الشعاع تدغدغ الأحاسيس ، تعيدها بعد طول ارتحال
تبرزها أدمعا ولهفة وارتجافة ،ورعشة هي كالطيران، كالسباحة ، كالركض هي لا كشيء، هي لايمكن وصفها ،
من قال أن الطرق لا يقتاتها الحنين ؟ فلم اشتعال الشوق في ترابها
من قال أن السنابل لاتهفو الى نبض حنون , فلم احتبالها ؟
فلم ارتحال دلو الماء, ولم ارتجافات الساقيات فوق جيد الماء
ياللسماء ، حينما تشاء — الهطول ؟
ياللسماء
الزغاريد تعلو، والخراف تذبح ،والأعيرة النارية تتعانق في الهواء
لقد عاد علي
حتى العجائز خرجن يوزعن الريالات على الأطفال– والغرباء
والعجوز العمياء (عطرة ) نذرت ليلة تقوم فيها صلاة لله
وفقدت والدة علي وعيها سعادة لعودة علي
وهرع الصغير والكبير
القريب والبعيد
وخضراء هناك ، تتلهف لرؤيته
هرع الأعرج (الغريب )إلى على حيث وعده بحذاء يّقوم ساقه
وغفا المجنون (صالح ) على كفه فطالت غفوته
فكيف سكن حبه في قلوب الناس أجمعين ؟
وخلد علي إلى النوم باكرا بعد أن تناول مع أهل قريته العشاء
أطل الصباح مبتهجا ، ورائحة خبز أم علي وقهوتها الصباحية
والبخور
تناول أفطاره الذي اشتاق إليه كثيرا وخرج ، تنفس الهواء النقي
ومضى يلثم الطرقات ، الآبار والبرك والفراشات الملونة
دون وعي يسير ، وأعود إليك ياقريتي لأعود إليك
وصفقت أسراب العصافير أجنحتها وطارت في الهواء ؟
والتفت صوب الصوت وأسراب العصافير
ترى لم جفلت ؟
كانت هناك ، فتاة تنبض ، تعج ، بالهوى والغوى ، سقط ضؤها على أسراب الطيور فهربت كي لا تقع في أسرها
فتلقى الأسر برحابة صدر
من أنت ياعلي ؟
وأين كنت ؟
ومالذي اعتراك ؟
وكرر السؤال
من أنت ؟
وأين كنت ؟
أين كنت ؟
فملّه السؤال
شعر بضيق
وباختناق الطريق
وقفل راجعا للبيت
رعشة
وقشعريرة
وعينان زائغتان
وقلب تائه
وتأتأه
وفراغ
تدثر من شدة البرد — ومامن برد
فهرعت أمه إليه
ماذا اعترى ولدي ؟
العين ، العين سأجمع غسول أقدام الرجال من أمام المسجد
وأقدام النساء من أمام عتبات بيوتهن
ولدي، وعلي في عالم آخر يسأل نفسه أأ نسية هي ؟ أم جنية ؟
ومضت والدته تعد الثريد لكنه أبى أن يأكل فبكت : ولدي به جِنة
فتبسم قائلا أماه لاشيء بي ؟
كانت رائحة طعام شهي تفوح ، شقيقة خضراء الصغيرة تحضر غداء شهيا أعدته خضراء احتفاء بقدوم الضيف
والتفت إلى أمه :ومن هي خضراء يا أمي ؟
فارتفع صوت أمه باكيه :ولدي به جِنه ،ألا تعرف من هي خضراء ؟
رفيقة العمر ، رفيقة الطفولة ياعلي
ارتد عقله إليه قائلا : كنت أمزح يا أمي
قالت والدته :إنها خضراء ومن يصنع ماتصنع خضراء !
ومن تبر بي كما برت خضراء !
يومان تقلب علي في فراشه كسلا وحيرة
المكان يضيق حد الاختناق ،لاطعم لشيء ولم يعد يقرأ كما كان سابقا
نصحته أمه بأن يذهب الى المزارع لعل الهواء النقي ينعشه
وتتحسن حالته النفسية ،فاستحسن قولها ومضى
كانت هناك خضراء على غير موعد الا دليلها -قلبها ولهفتها
علي ؟ أأنت هنا ؟
خضراء ؟ كيف حالك ولم أنت هنا ؟
مازالت لدي مهام سأنجزها
خضراء أريدك في أمر ما ؟
وخفق قلبها بشده وارتجفت حتى كادت تسقط
هل بك شيء؟
لا لاشيء ،وتصاعدت الاسئلة وقلق الاسئلة
ترى في ما يريدني ؟
هل آن الآوان لأن يتوج حب السنين فوق عرشه ؟
كان قلبها يخفق بشدة ودموعها تتساقط
انهت أعمالها كيفما اتفق ، ومضت اليه
خضراء يا أغلى انسانة في الدنيا
أريد أن اسألك عن فتاة شاهدتها بالأمس في مزرعة أبي محمد
من هي ؟
وذهلت خضراء ودار رأسها كما تدور الفصول
استجمعت ماتهشم من بقاياها وسألته
ولم تسألني عنها ؟
فابتسم في شرود ثم قال: سألتك فلا تسأليني
قالت هي حفيدته أسماء عادت قبل شهر مع والديها من المنطقة الشرقية لأن والدها أصيب في عمله العسكري فحصل على تقاعد ،
وارتسم الهدوء على محياه ،
سألها هل نمضي ؟
سأمضي وحيدة
وانصرفت ، تضرب الحصى بأقدامها فينتشر الرمل حولها
تطفيء صخب روحها
يسألني عنها
ولم يسأل ؟
هو الحب ورب الكعبة
عيناه زائغتان وبصره تائه ولبه شارد
ليت الطريق تحمل إليّ حية تنهشني كي لاأكون
وتساقطت الدموع، وعلا النشيج ،ونشر الليل رداءه ونام الضوء في حضن سحيق وتمايل الشجر ثقيلا وسكنت الحياة إلاّ ضجيج مازال يقتات أعماقها ، على غير هدى تسير ولتقودها قدماها إلى السعير لافرق بعد الآن ، كانت الوحدة في انتظارها — والظلام فألقت نفسها في أحضانهما واستدعت النوم فأبى فسقت الليل دموعا حتى حان وقت انصرافه
وهطل الصباح كئيبا حزينا ، صباح لايشبه صباحات ثمانية عشرة من العمر مضت بل هو صباح سنوات قادمة
كان علي يدعوها فنهضت ، فمد يده بهدايا ، مرآة وعطر لفت بعناية وقال :أريدك أن تحملي هديتي إليها وتعلقي بها منذ النظرة الأولى
سأمضي ردت عليه وهي تخشى أن يكتشف ارتعاشة صوتها
لكن هيهات ، من قال أن الرجل ينتبه لأكثر مما يريد
لو كان ذاك لأدرك علي لم انتفاضة الطريق تحت قدمي خضراء
فماذا بعد ذاك
لم تفسح الطريق لخضراء كي تركض او تهرول أو ترقص كفراشة آثرت الموت في الضوء على حياة الظلام
والزهر المنتشي جحد ماءها ودفئها ومضى طربا نحو فتاة عابرة
لم تحمل أعواد الحطب ولا حزم الحصاد ، لم تدفيء الشتاء وتغص بخبز الشعير والحنطة السمراء لم الجحود ياقريتي ؟
عندما أطل الصباح بوجهه المراوغ
هكذا قالت خضراء لم تمنحه ابتسامتها كعادتها ،
إنه لايبحث إلا عن أمثالها ليعلنوا قدومه
أما الغارقون في سعادتهم فهم يولونه ظهورهم
ولم لا سأوليه ظهري ،
كان علي كعادته يقرع الباب ليسير وهدى الى المزرعة
قالت والدتها لاأعلم ماذا اعترى هذه الصبية !
، لم تعد تستيقظ باكرا
ولم تعد تهتم بالمزرعة
والأغنام ولا غيرها ،
وعندما يئست من ايقاظها كان علي يذهب الى المزارع وحيدا .
وفي المساء اقتربت خضراء من والدها
وهمست في أذنه
فتهلل وجهه سعادة وقال ولم لا ؟
غدا سأصطحبك إلى سوق المدينه ،يحق لك
ما يحق لأخواتك
ونقدها مالم ينقده لأي من شقيقاتها، فخضراء لاتطلب شيئا لنفسهاوهذه هي الفرصة المناسبة
وعندما أطل الصباح كانت ووالدها يسيران الى السوق
بحثت عن مرآة فوجدتها كتلك المرآة التي حملتها ذات جرح إلى امرأة أخرى ، ومضت تشتري غير ماعتادت عليه من كحل وعطر فاخر كعطور شقيقاتها وملابس ملونة وغيرها
خبأت أشياءها في خزانتها الخاصة وبدت غامضة غريبة على أمها وشقيقاتها ، ومن ثم مضت للمساعدة في أعباء الحياة اليومية ،
واستقبلت المساء هذه المرة بلهفة ، لتتأمل مرآتها
فهالها شعث شعرها ، وانطفاء بريق عينيها وجفاف وجهها ، يالك من ساذجة ياخضراء بينما الفتيات تتنعمن في المنازل بعيدا عن الهواء ولفح الشمس ،
تنهمرين كخادم أمين في أعمال المزرعة والبيت
دعي العمل الشاق للغرباء والرجال وانصرفي لشئونك ، كان الضمير يقول إنها أسرتك لكنه—- جرحها كان أنينه أعلى وأعلى
هم الرجال نذير الشؤم من يغيرون اتجاهاتنا
ويضعون الآلام في طريقنا وسالت الدموع حتى الصباح
بات جسد خضراء يلفظ الشمس كما يلفظ الجسد جسما غريبا يحل عليه ، ولم تعد تذهب إلى المزرعة الا لماما ، كان علي ينتظرها كثيرا وعندما يفقد الأمل في مرافقتها له اإلى المزرعة يذهب وحيد ا وبدأ يتساءل ماذا اعترى هذه النقية ؟؟
لتعصف الأسئله به كيفما شاءت فهو لايحتاج أكثر من رفيق يشاركه الطريق
كانت الخاله زهرة تدرس الفتيات أصول الدين والقراءة وبعض الحساب وقررت خضراء الذهاب اليها والتعلم على يديها
بعد أن حملت اليها صاع بر وآخر من التمر –وبدأت سعيدة وهي تدفن أحزانها في لوح نقشت فوقه أحرف الهجاء
كانت سعيدة وهي تردد بين شقيقاتها وبنات الجيران هذه الأحرف
أ أي أو ، بَ بِ بٌ
كان خبر انضمام خضراء الى كتاتيب الخالة زهرة قد انتشر في القرية وسخط الجميع عليها وعلى والدها الذي لا يستطيع أن يكبح جماح ابنته ، وقد حذر أهل القرية بناتهم من أن يخاطبن زهرة أو يجلسن إليها أنها ستعلمهن كتابة الرسائل الغرامية
أما علي فقد سعد بخطوة خضراء الجريئة ومضى يبارك لها ويحثها على الثبات وتحمل جهل أهل القرية
بكت خضراء كما لم تبك السماء ذات شتاء
بكت لأن أهل قريتها لم يشعروا بها وعاملوها كالغريبات في القرية ، واللا تي علمهن أولياء أمورهن غير خاضعين لقيود الجماعة العمياء ،
لقد أصبحت الغريبات هن صديقات خضراء ، فاكتشفت أنهن يحملن من العلم والعقل والواقعية الكثير
كان والدها يسير مطاطيء الرأس وقد نبذه الجميع لكنه مصر على تحقيق رغبات ابنته خاصة وأنها يعلم كم هي راجحة العقل ، ذكية
أما والدتها فهي تولول كل يوم داعية عليها بالويل والثبور
فقد حرمتها من الاختلاط بنساء القرية وقضاء بعضا من الوقت معهن
مالفرق يننا وبين غرباء القرية –أيتها البائسة ؟
هيا اغربي عن وجهي
قبحك الله
لكن خضراء تستزيد من آلامها ذوابة الطريق المظلمة –دون التفات
ستمضي — لتدرك أن الحياة ليست محيطا صغيرا يرتكز في عيني علي
الحياة أكـــــــــــــــــــــــبر ، الحياة أكــــــــــــــــــــــبر
وهكذا قررت خضراء الالتحاق بالتعليم النظامي كانت في التاسعةعشرة من عمرها ، امرأة ناضجة ، يجب أن تكون أولى اهتماماتها مرآة وعطر ولكن لمن العطر ياخضراء ؟
ضغطت بقوة على أسنانها ، زفرت بعدهابسرعة ومضت نحو هدفها ، التعليم , كي تكون امرأة انيقة كتلك الفتاة التي تعلق قلب عليُ بها ؟ وفتّحت الأبواب
خاصة وأنها تجيد قراءة القرآن ، وعلوم الدين ، كانت خضراء الأولى دائما حتى أتمت المرحلة المتوسطة الثانوية وكانت الفتاة الوحيدة بين فتيات القرية التي حصلت على مكافأة امتياز وهكذا أصبحت أم خضراء تتباهى بها وتدعو النساء لزيارتها —
كانت النساء تسارعن لخطب ود خضراء ، وخضراء آنفة عنهن لافرق بينهن وبين الحرباء ، يتلونّ بكل لون ، لكن صوت الضميركان أسرع لدي خضراء
قبحا -! أهذا ماحصدتيه ياخضراء من تعليمك ؟ تذكرت مقاطعتهن لها ولأمهاوعزوفهن عن زيارتهاعندما تلقت تعليمها على يد الخالة زهرة ، وهاهن اليوم بوجه آخر ،ومذاق حلو ، كانت أمها تتأملها وقد أدركت مايدور في ذهنا قائلة لها أما أنا فسعيدة بك وبهن —
يالأمي التي لايهمها سوى إرضاء نساء القرية !
غدا السبت ستنتظر خضراء خبرا سعيدا — تعيينها كأول فتاة من القرية –ترى أين سيكون تعيينها ؟
كان السبت يحمل شعاعا مختلفا وقشعريرة —
قدماها تصطكان لهفة وقلقا —
وكان الخبر افتتاح مدرسة جديدة بالقرية تكون خضراء مديرتها —
يا آلله — لم يدر ببال خضراء هذا أما ولم تضق السماء بأحلامها فهاهو يوم سعيد
سأمسكه بكلتا يدي وأحلق —وحلقت خضراء
استلمت مهام عملها الجديد ذكية ،جذابة ، طيبة ، افتتحت فصلا لتعليم الكبيرات ومحوالأمية وانتشر العلم في القرية الصغيرة علي لازال يزور حلمها حينا بعد حين وتنهيدة ،والأيام تمر بليدة لاشيء يغري خضراء ولا حتى حلمها ذلك الذي غرزه علي في عضدها ،حلما لايعترف بالواقع عشرة من الأطفال يملئون الدار والطرقات خضراء اليوم تطرق باب الأربعين امرأة تهفو إليها القلوب ، يطرق الرجال بابها منذ مالايقل عن عشرين عاما ومارحل علي عن خيالها علي الذي تزوج بفتاة ترتدي البنطال وتحمل في معصمها ساعة ذهبية وتجيد الحديث مع الرجال خضراء كانت تصنع الثريد والمرق وتحمل أعواد الحنطة إلى فناء أم علي –ضحكت ضحكة صفراء ، لكن عليا لم يكن سعيدا مع زوجته هكذا قالوا– فسالت دموع خضراء حزنا من يعيد أيام خضراء وله شهادتها؟ ، له تهافت القلوب عليها واعجاب الناس بها ؟من يعيد قلب خضراء بين يدي علي تصحو وتنام على اسمه ؟كالطير يبحث عن و طن وكاللاجيء ينام على حلم وكالشهيد يحمل الكفن علي لاينجب الرجال يطرقون بابها لكل شيء ، قد تخرس الألسنة ويفوز يقلبها أحدهم سيمنحها كل شيء إلا الأطفال العشرة فقد قُضي من العمر أربعين ، تحلم بالزواج من رجل لا ينجب ولن يكون لديه من الأطفال عشرة انتهت…>
إبهارٌ بعد انبهار ..
هكذا أنت تحملين ماحملت خضراء من حب .
الله الله…. ما كل هذا الابداع