هلك التابع والمتبوع

كنت أظن أن ثقافة الولاء ، ومبدأ التبعية العمياء ، قد انقضى عهدها ، وباد أهلها ، وانحسر مدها ، أمام دعوات تحرير العقول ، وبناء الشخصيات ، واستقلالية الذوات ، فإذا بنا نراها في ثلة غلت في تقديس رموزها ، وتعظيم مرجعياتها ، فمعهم ولأجلهم عطّلوا عقولهم ، وأهدروا طاقاتهم ، ورهنوا ذواتهم ، فهم يتفاوتون في دركات التقديس ، وارتكاسات الولاء والتسييس .

إن أعظمَ كارثة تحل بالمجتمعات ، وأكبرَ جريمة ترتكب في حق النفوس ؛ أن يقتلَ المرء عقله وفكره ، ويئدَ حريته وذاته ، فيصبح ويمسي – بعد إن خُلق حرًا طليقًا يسبح بفكره في كون الله ، ويُبدع بعقله في أرض مولاه – دمية في يد الرمز يصرفه لحسابه ، ولمصالحه ، ولنفوذه ، كيف شاء ، ومتى ما شاء ، بدعوى ثقته به ، والاقتناع بمنهجه وفكره ، وما علم أن كثيرًا من القناعات والقدسيات حول هذه الرموز والمرجعيات تتبدل وتتزعزع لو حرّك التابع شيئًا من حواسه وإدراكاته ؛ كالأُذن بالسماع ، والنظر بالقراءة ، والقلب بالتدبر ، والعقل بالتفكر ؛ ولكنَّ كثيرًا منهم أخلد إلى الضعف والركون ، ورضي بالخور والدون ، والله عز وجل يقول : ( أفلا تتفكرون ، أفلا تتدبرون ، أفلا تعقلون ) . وفي السيرة النبوية ما يصدّق ذلك ولا يُكذِّبه ؛ فهذا الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث عن نفسه : أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، فمشى إليه رجال من قريش ، وكان الطفيلُ رجلاً شريفًا شاعرًا لبيبًا ، فقالوا له : يا طفيل ، إنك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا ، وقد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه ، وبين الرجل وبين أخيه ، وبين الرجل وبين زوجته ، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئًا قال : فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه ، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرسفًا – القطن – فرقًا من أن يبلغني شيء من قوله ، وأنا لا أريد أن أسمعه ؛ قال : فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة ، قال : فقمت منه قريبًا فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله . قال : فسمعت كلامًا حسنًا ؛ قال : فقلت في نفسي : واثكل أمي ، والله إني لرجل لبيبٌ شاعرٌ ما يخفى علي الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته ، وإن كان قبيحًا تركته ، قال : فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه ، فقلت : يا محمد ، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا ، للذي قالوا ، فو الله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك ، فسمعته قولاً حسنًا ، فاعرض علي أمرك . قال : فعرض علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ، وتلا علي القرآن ، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه ، ولا أمرًا أعدل منه . قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق ) ، فهذا الأثر يدل على أن المرء يجب أن يُعمل عقله وفكره ، ولا ينجر وراء عاطفته خلف كل من يدعي الحق ؛ فإن الله عز وجل يوم القيامة عندما ينادينا يقول : { ماذا أجبتم المرسلين } ، ولم يقل : ماذا أجبتم فلانًا و فلانًا ؟ .

وإن لهذه التبعية العمياء دلائل وإشارات ، وشواهد وأدبيات ، يعرف المرء متى ما ظهرت منه ، أنه قد تجرّع السمَ الزعاف ، وافترسه الداء العضال ، ومنها : التصنع للمتبوع ، فلا يظهر على طبيعته الحقيقية أمامه ، فالكلام معه غير الكلام مع غيره ، والسمت غير السمت ، والعبادة غير العبادة ، وهكذا ، وقد ذكر الذهبي في سيره ، أنه قيل للإمام الرباني علي بن بكار المصيصي : إن حذيفة المرعشي – أحد الأئمة العبّاد – قد دخل بغداد ، ألا تُحب أن تلقاه ، فقال : لأن ألقى الشيطان أحب إليَّ من أن ألقى حذيفة المرعشي ، أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله ، وأيضًا الوقوف عند كلامه ، والتعصب لرأيه ، فكل رأي يخالف قوله فهو رأي مرجوح حتى ولو كان معه دليله وبرهانه ، فهو لا يعرف الحق إلا بالرمز ، فإذا قيل له : هناك قولٌ آخر لفلان ، بدأ يثلب في دينه وعرضه ، ويسفه من رأيه وقوله ، وأيضًا من ذلك أن سره عنده علانية ، فلا يُخفي عليه أي سر من أسراره ، أو أسرار غيره ممن أستأمنه عليها ، فيبوح له بكل ما في قلبه من أسرار وأمانات من غير وجود مصلحة تقتضي ذلك . ومنه أيضًا كثرة الاستشهاد بأطروحاته ، وآرائه ، وتغريداته ، مما يلفت السامع والمتلقي أنه متأثر به أشد التأثر . ومنه المبالغة والإكثار من استشارته في كل أمر يعرض عليه في حياته العامة والخاصة التي ربما لا تحتاج إلى استشارة . ومن ذلك أيضًا النظر المصحوب بالإيمان إلى مثالية حياة المتبوع ، وأنه من أطيب الناس عيشة ، فزوجته أفضل النساء ، وتربيته لأبنائه خير تربية، وتعامله أحسن تعامل ، فهو خالي العيوب ، كامل الأوصاف . ومن ذلك أيضًا أنه به يُخاصم ، وبه يُقاطع ، من غير أن تكون بين التابع وبين من قاطعه وخاصمه لأجل المتبوع أي عداوة دينية أو دنيوية ، وقد تصل هذه العداوة إلى ترك أبسط حقوقه التي أمر بها الإسلام كالسلام ، والابتسامة . وأيضًا تقليد حركاته وسكناته ، وكلامه ولباسه ، ونظراته وعبساته ، وأيضًا شدة الاعتذار المؤدي غالبًا إلى الكذب ، والمبالغة في طلب رضاه ، عند غضبه منه ، وغيرها من الدلائل.

والإنسان على نفسه بصيرة ؛ فإن كان حاله كما ذكرت فليتق الله ربه، وليعلم أن أعظمَ مرغوب ، وأجلَّ مطلوب هو أن يرضى الله عنه ، وليس أن يرضى عنه فلانٌ من الناس ، وليُجرّد ذاته لكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم يولي وجهه شطر المصلحين والمربين المعتدلين الذين لا يرضون هذا الغلو المذموم ، والشطحَ المعلوم ، وفي سنن الدرامي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَمْشِي وَنَاسٌ يتبعونه ، فَقَالَ : ( لَا تَتبعوني ؛ فوَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابِي ، مَا تَبِعَنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ ) .

وإني – بإذن الله – غير متجانف المنطق بمقالي ( هلك التابع والمتبوع ) ، ولستُ مبالغًا في فلسفتي لأدبيات وأخلاق هذه الطاعة الرعناء ، وحسبي منه أني أردت بيان الحق والصواب ، وتصحيح المسار إلى ربنا التواب ، ولا أحب أن يُحمّل مقالي ما لا يحتمل .

وأخيرًا فليعلم القارئ العزيز أن له قوة في دينه ، وقوة في عقله ، فمتى ما فسد أحدهما ؛ فقد فسدت حياتُه ، وضاعت كرماتُه ، وتهافتت حجتُه ، وقلّت بين الناس مكانتُه وهيبتُه ، وأنه يجب علينا أن نحمي ذواتنا بمهارة دون العدوانية المؤذية ، وأن نفخر بأنفسنا دائمًا دون الاستخفاف بعموم الناس ، ومن يضلل الله فما له من هاد .
>

شاهد أيضاً

الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة

صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل :  انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com