قَرْعَاءُ لاَ فَرْعاَء

(ق رع – رق ع – ع ق ر- ق ع ر- ع رق) هذه الأصوات الثلاثة في عربيَّتنا تنصبُّ في معنى: المقاواة والمجاهدة، والمفاعلة من أولها: مقارعة. ويطول الحديث عن هذا ولكم أن تعودوا إلى المعاجم التي لم أعد إليها لعدم حاجتي إليها هنا، لكنّ أقرب شاهد أحفظه ويحضرني على هذا هو قراع الأبطال في قول النابغة:

ولا عَيْبَ فيهمْ غير أن سيوفهمْ

بهنَّ فلولٌ منْ قراعِ الكتائبِ

ومسميات البشر والأماكن والأفعال والظواهر في لغتنا الخالدة عجيبة فعلا، تمثّلُ جوهر الثقافة تمثيلا قد لا يدركه الذين تعلموا العربية على أساس (الكلمة – معناها)، بالأسلوب التعليمي التلقيني الذي اعتمدناه في تعليمنا مما خلق لنا أمة من الخطباء الحفظة البهلوانيين -الذين حان للتقنية أن تغنينا عنهم- والملقّنين الذين يلقِّنون كلمات لا يفقهون حقيقة مدلولها العربي المشتق (اشتقاقا أكبر أو معنويا) من تناغم أصوات الكلمة مع مدلول الفعل أو الظاهرة.. ولذا نجد أن الأسماء تعلَّلُ عكس نظرية العلماء الكبار المستعربين. فلا نعرف علَماً لمكان أو إنسان أو فعل أو ظاهرة إلا ولتسميته ارتباط بين أصوات اسمه وواقع حدوثه.

وهكذا نجد كلّ مَعْلَم من معالمنا أو جبل أو واد يحمل عبق المكان والتاريخ والزمن، حتى تتدخَّل فيه أيدينا القاصرة في عروبتها بكل مفاهيمها! أحد هذه المعالم الشهيرة منطقة تتكون من مجموعة قُرى على جبال سروات عسير، من أجمل ما في الجزيرة خضرة وخصبا وطِيبَ هواء. امتدَّتْ إليها يدُ التعديل من قبل جهات المنطقة دون استشارة مثقفين يدركون خطورة تغيير التاريخ في أي معلم وموضع، فكان الإصلاح بتغيير اسم منطقة (القرعاء) التي كان سبب تسميتها هو شدة قراع الكتائب عليها لما لها من أهمية، وصار الاسم الجديد: الفرعاء. وخلال حديثي ذاتَ لقاء -في فندق قصر أبها قبل سنوات- عن خطأ مسخ التاريخ والتجرّؤ عليه أفادني أحدهم بأنه يريدها فرعاء لا قرعاء، لأنه يعلم من الكلمة معنى مدرسيا واحدا هو: القرَع -عدم الشعر في الرأس- وأن هذا الاسم لم يعجبْ أحد شعراء الخليج الأثرياء (الشعبيين) عندما جاء إلى أبها! ولم أستوعبْ أنه يمكن لأمانة أو أية جهة أن تستمرئ مثل هذا التغيير بكل بساطة، فمن ملك هذا ملك تغيير تاريخ أكبر أو إلغاءه، وتخيلوا: تغيير التاريخ بتغيير نقطة، وهذا يذكرني بـ(أل) التعريف وجعلها إشكالا في قرار مجلس الأمن رقم (242) بعد هزيمة 67!

ورغم أن جهة الاختصاص تلكم بذلت الأموال من أجل إزالة نقطة، نجد الأهالي لا يستطيعون نطقها بغير اسمها، فأمامه لوحة (الفرعاء) لكنه ذاهب إلى القرعاء، وهذا دليل على تمسّك الشعوب بتاريخها مهما جرى مسخه!

كما أننا قد سمعنا محاولات عن مسخ التاريخ لمدينة (القحمة) ذلكم الاسم التاريخي العبِق نظرا إلى أن أحدهم فسّر كلمة (قحم) بالكبر والعجز، راجيا من كل من أراد ذلكم استخدام أسلوب العرب في تفسير معاني الأصوات، لا الألفاظ المدرسية لتعليم من لا يفقه العربية، والعودة إلى رواد ثقافة التاريخ والمكان واللغة..أنا هنا أتحدَّثُ عن مثال واحد أمامي، بينما القضية ظاهرة عامة نراها في أرجاء الوطن، يرافقها تجاهل لكل تراث فوق صفحة الأرض التي حملت ثقافات آلاف السنين المثقلة بالمفاهيم الإنسانية، وستحين صحوة من الوعي الإنساني لدراسة هذه الثقافات باستفاضة، فكثير منا يتساءلون عن أشهر معالم العرب والإسلام في الجزيرة أين هي وكيف ضاعت؟ ومن هو الفاعل في إضاعتها؟ أين (حديقة الموت) في اليمامة التاريخية التي سقط فيها قرابة سبعين صحابيا؟ وماذا عملنا لها كمعلم تاريخي من معالم الإسلام؟ أم أن مستوى وعينا التاريخي يصل إلى درجة أن تخطئتنا لمتنبيها تعطينا مبرر إهمالها كتاريخ، وإلا لكان على أحبتنا في مصر مسح كل مآثر فراعنتهم؟ وأين (جلة امَّوْت) في عسير ولمَ تغيّرُ ببساطة إلى (وادي الحياة) لمجرد كلمة تعجبنا ونتفاءل بها خيرا من الاسم الأصلي المرتبط بتاريخ؟ بل أين كل المآثر في الحجاز وفي غيره؟ وما فائدتنا من مسخ التاريخ لمجرد أن الكلمة أعجبتْ زيدا أو عمرا؟ وماذا إذا استمررنا في اسْتبدال التاريخ كل عام بحذف نقطة؟
>

شاهد أيضاً

3 مواجهات غداً في انطلاق منافسات الجولة 28 من الدوري السعودي للمحترفين

صحيفة عسير ــ الرياض تنطلق غدًا الخميس منافسات الجولة 28 من الدوري السعودي للمحترفين “دوري …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com