الجنوب والبَعَجَة

الكرة الأرضية بيضاويّة الشّكل، طولها يأخذ الاتّجاه الذي اصطُلِحَ عليه: الشّرق والغرب، وأترك لكم بقية التوصيف من الانبعاج وغيره.

ثمّ نقتربُ قليلاً إلى سطحها المعمور، لنجد ما يسمى دول الشمال ودول الجنوب.

ومع أن عالمنا العربيّ كله جنوب (مع الأسف) نجده مغرباً ومشرقاً مظلوم الجنوب إزاء (بعَجَتِه وشماليّه) وبشكلٍ لافتٍ للنظر، فمثلاً جنوبي مصر أقلّ حظّاً من شماليها، وبجانبه على الحدود السودانيّة شمال السودان (نفس الإقليم) ليس كذلك لأنه شمالٌ بالنسبة إلى السودان!

لنصل إلى وطننا الذي يغلب على ساكنيه أنهم من الجنوب، إما مقراً وإما عن طريق الهجرة عبر التاريخ، ومن لم يكن كذلك فلْيسْألْ عن أجداده أو أخواله أو أخوال أبيه، غير أنها هاجرت إلى الشّمال على طريقة حبّ العرب وغيرهم الهجرة إلى الشّمال، حتى لأكاد أدعي أن هناك شيئاً ما لا نفهمه من سر الشمال!

والمهم هنا أن نصل إلى الفرق التنموي بين الجنوب والشّمال في مختلف دولنا العربية بما فيها المملكة، والذي أراه خضع لطبيعة الحياة على الأرض والتي تعتمد قطبيّة الشّمال، لأجدَ هنا عذراً قد يكون المخططون يرضخون تحت وطأته، ويحتاجون إلى تشريحه والبحث عن دواء له، ولو كان بالكي إن لم ينفع الوعي. وأرجو أن تلقوا نظرة على خارطة المملكة مثلاً لتلاحظوا أن مطاراتنا الدولية هي ثلاثة تساير بيضاويّة الأرض (شرق – غرب) ولم تساير طول المملكة (شمال – جنوب) وهي مطارات: الظهران – الرياض – جدة، ولم يشفع لأبها (حتى اليوم) أنها من أجمل مصايف بلاد العرب، وبؤرة السياحة في المملكة.

والخطوط السّريعة لم ينجح ويكتمل أحدها بالتوجّه جنوباً، وحملت عقدة (شرق – غرب)، ورؤوس الأموال الاستثماريّة يبدو أنها منجذبة هي الأخرى لعقدة الأرض البيضاوية!

وآخر ما احتفلنا له تأسيس سكك الحديد التي لم تستطع تجاوز وسط البلد إلى اتجاهات أخرى ومنها الجنوب.

فكرتُ أيضاً في أنه حتى الدين والدعوات الإصلاحية جاءت من الشّمال.. وغزتنا المُعاصرة والحداثة من الشّمال، وهاجر كثير منا إلى الشّمال هجرةً حقيقية وهجرةً فنّية تماماً، كما حدث في أقطار عربية أخرى كمصر -مثلاً- حتى ضعفت تنمية الجنوب.

الشّيء الوحيد الذي كسر حاجز هذه العقدة كسراً فطريّاً قسرياً هو: الإبداع ، فكلّما أوغلت نحو الجنوب زاد إيغالُ الإبداع وتألّقه.. فهل الإبداع -كما يرى البعض رديف للحاجة؟ صحيح أنني أدرك أن بين درجة الإبداع والتّرف تناسباً عكسيّاً جليّاً (مع رجائي ألاّ تغترّوا بالمترفين الذين وجدوا أنه لم ينقص ترفهم شيء سوى أن يكونوا شعراء، فقرروا ذلك بأية وسيلة وسخّروا لهم بأموالهم عبيداً من المبدعين، وألاّ تحسبوهم على الإبداع)، لكنّي -مع هذا الإدراك- أصرّ على أنّ الإبداع لا يخضع لأية جهة، وهو الوحيد الذي يملك التمرد عليها.

وقفتُ ملياً أمام قضية عقدة (الشمال) التاريخية، حتى إنني لأذكر أهلنا وهم يتغنون بمجرد ذكر الشمال أكثر من غيره من الجهات، ويطربون لذكر الشام وأهل الشام أكثر بكثير من ذلك عند ذكر اليمن السعيد.

حاولتُ أن أبحث عن عذرٍ طَبَعِيّ لوزير ووزارته وهو يخطط لخدماتها ويقتطع جزءاً من ميزانيتها ليخصصها بعطفٍ لإحدى مناطق الجنوب كي يزداد نماؤه، وأقنعتُ نفسي بأن هيئة سكك الحديد تحسبُ في خدمتها جدوى خدمات النفط واتجاهاته حتى لو كانت تعلم أن النفط عارض حضاري مؤقت، وأن البقاء للأرض وشعبها.

عقدة الجهة لم تزل تؤرّقني لأبحث عن إجابة لأسئلة: ألم يستطع الوزراء أن يتعاملوا في خططهم مع المناطق -بعيداً عن مفهوم الاتجاه- وأن ما يسمّى إحصائيّاً: الوزن على اعتبار المكان لا على اعتبار الجهة له أهمية موضوعية في التخطيط والتنفيذ؟ وماذا لو كان وطننا الآن موصولاً بخطوط سريعة جاهزة وسكة حديد من الطوال إلى تبوك من نصف المملكة الغربي، ومن نجران حتى الحدود الشمالية من نصفها الشرقي؟ أليس هذا كان ذا جدوى حقيقية تزيد لحمة الوطن وأهله وأمنه الاتصاليّ والوظيفي؟
>

شاهد أيضاً

الجمعية الخيرية بمنطقة جازان تنهي تفويج 1000 معتمر ومعتمرة

صحيفة عسير – حنيف آل ثعيل :  انهت الجمعية الخيرية بجازان وجميع الجمعيات المشاركة في …

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com