بقلم/جمانة كتبي
منذ أشهر.. اُقترح عليّ الكتابة عن “لذة الإنجاز” ولم أجد همّةً لذلك؛ حتى انتهت مناقشة إحدى زميلاتي قريبًا، فثار من بعدها الكلام وجال… لكن على نحوٍ مختلف!
البداية واحدة.. نعم، “الإنجاز” أحدُ مسرّات النفس ولحظاتها البهيجة، لحظة تحقق “الإنجاز” في شيء عمِلَ المرء عليه وأكثرَ السعي إليه. ولهذا فالحديث عن “الإنجاز” محبب للنفوس ومحفّزٌ للهمم، ومُعلٍ لما فَتُر منها أو أوشك. ومن هنا وُسم “الإنجاز” وارتبط بشعور اللذة، وأنه موضع من مواضعها التي قد يُصوّر على نحوٍ مبالغ فيه أحيانًا أنه شعورٌ لا يعدِلُه شيء.
لكن إنجاز المسلم يختلف عن إنجاز غيره! فلم يترك الإسلام شيئًا من حياة المسلم إلا وميّزه بعلامة فاخرة! انظر للطلاب في جميع أنحاء العالم حين يناقشون أبحاثهم في مرحلة الدراسات العليا كيف يسعدون سعادةً يسود فيها مفهوم “جهدي، سعیي، أنا رائع، أنا أستحق…..” بينما الطالب المسلم المستحضِر لنعم الله، يقول بلسانه أولًا “الحمد لله” بل وتراه يُتمتم أثناء إعلان النتيجة بشيء بينه وبين الله لا يعرفه المشاهد! فلا ينفك قلبه عن التعلق بالله والاعتراف بفضله وتوفيقه ومنّته. وانظر له كيف تأخذه العبرة وهو يستحضر فضل والدَيه عليه! وهو يقول بلسان مقالِه أو حالِه {ربِّ ارحمهُمَا كَمَا رَبّيَاني صَغِيرًا}. بل وإذا بلغ منه السرور منتهاه خرّ ساجدًا شاكرًا لله، غير عابئ بالحضور! انظر له وقد ألصق جبهته وأنفه لله ولله فقط في موضع الحبور هذا!
هذه العلامات الفارقة المميزة للمسلم عن غيره؛ تُربّيه على التواضع، فهو يعلم أن ما بلغه من هذه النعمة فهو بفضل الله وإعانته، ويتعوّد بذلك أيضًا على نسبة الأمور لأصحابها، فلا يكون أنانيًا لا يرى إلا نفسه، بل هو ذاكرٌ شاكرٌ للناس ولربهم ومسخّرهم له.
مؤخرًا.. لا أنفك أتلّمس مواضع تميز المسلم والمسلمة عن غيرهما في المواقف والمشتركات البشرية، كما في موقف النجاح هذا، وأجد أن تميز الإسلام في موضوع النجاح والإنجاز أكثر من هذا وأبعد بكثير… فهو يتسامى عن أن يقصر الإنجاز والنجاح والفوز في أمورٍ مادية، محصورة في مظاهر القوة والشهرة والجمال.
لعل هذا التلمّس بدأ أول مرة في فعاليةٍ حضرتها بعنوان “تمكين المرأة من البحث العلمي” قبل سنوات، إذ جلستُ مستمتعةً مُستمعة لما قيل.. فعَلت همتي بما ذُكر من التجارب والخبرات، والإبداعات والنجاحات، ودوّنتُ باهتمام ما يُفيد… وسط ذلك كله؛ تذكرتُ فجأة! المرأة التي كانت تَقمُّ المسجد -أي: تنظفه-، وحين غابت سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا علِم بوفاتها قال عليه الصلاة والسلام: (أفلا كنتم آذنتموني) أي لماذا لم تخبروني؟ فذهب وصلى عليها صلى الله عليه وسلم وقال: (إنّ هذه القبور مملوءةٌ ظُلمة على أهلها، وإنّ الله تعالى ينوّرها لهم بصلاتي عليهم).([1])
لحظة.. لنقف وننظر كيف كسبت وربحت؟! هي رضي الله عنها بموازين عالمنا المادي اليوم لم تقم بشيء كبير، أو إنجاز عظيم، ولكن صنيع النبي صلى الله عليه وسلم -قدوتنا- قد علّمنا أن الموازين التي ينبغي أن ينظر المسلم إليها أسمى وأبعد من الإنجازات المادية المحقِقَة للسُمعة والشُهرة والمال والغنى، فهي عملت على كنس المسجد، لكن هذا العمل اليسير في ميزان رسول الله عظيم حتى أنه سأل عنها حين غابت! بل وصلى عليها بعد أن دُفنت. إن لم يكن هذا ربحًا ونجاحًا فما هو؟
لماذا أقول هذا؟ لأن الصورة ملتبِسة عند بعض الناس، يحصر “الإنجاز” في صور ضيّقة! كل ما لا يندرج تحت أنماطٍ معيّنة يعدّه لا شيء! لاحظتُ هذا في مواقف متفرقة، لعل أشدها صراحةً ما قالته إحدى صديقات المدرسة حين اجتمعت تسعةٌ منا بعد سنوات. في وقت تعارفنا كنا ذوات أوضاع عمومية متشابهة (طالبات)، أما الآن.. فمنا ربة المنزل، ومنا ربة المنزل والزوجة، ومنا الزوجة والأم، ومنا طالبة الماجستير، ومنا الموظفة، ومنا صاحبة المشروع. قالت إحداهن: “أحس إني ما أنجزت شيء بحياتي! لا كمّلت دراسة ولا توظفّت ولا فتحت مشروع!” لن أقول هي مَن مِن الأدوار السابقة.. لكنها كانت غارقةً بنِعَم الله دون أن تشعر، ومُنجِزةً للعديد من النجاحات دون أن تُدرك! لكنها الصورة النمطية للإنجاز والنجاح هي التي حالت دون أن تلتفتَ لإنجازاتها! وكم في الناس مثل صديقتي؟! فلا تُردد الحياة المعاصرة بإعلامها ومشاهيرها على أبصارِنا ومسامعنا إلا قوالب ماديّة جاهزة، لو لم نتقلّدها ونكررها في حياتنا فنحن لا شيء!
لا.. بل إنّ سعيكَ للخير الدنيوي([2]) والأخروي إنجاز، صِدقُك إنجاز، تربيتك إنجاز، نُصحك إنجاز، بل وكفّكَ أذاكَ عن الناس إنجاز… كله يُحسب لكَ حالما تحافظ على علامته المميّزة (احتسابه لله) بعد ذلك ستجده في كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً… ألا تحفظ في صدرك {فمَن يعمل مثقالَ ذرّةً خيرًا يَرَه}؟
لنسعى للمعالي والإنجازات فلا أقصد التثبيط عنها، لكني أقول: دعونا لا نجعلِ العولمة تطمس علامات تميزنا، ولا ننسَ في خضّم السعي أنّ الفلاح أعلى شأنًا وأرفعُ مقامًا من الإنجاز والنجاح، فهو المذكور في كلام الله، قال سبحانه: {قد أفلحَ مَن تزكّى، وذكَرَ اسمَ ربِّه فصلى، بل تُؤثِرُونَ الحياةَ الدُّنيا والآخِرةُ خيرٌ وأبقى} ومَن أصدقُ من الله قِيلا؟
24 / 7 / 1443هـ
([1]) للفائدة/ راجع: شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين، (3/59-63). ط مدار الوطن للنشر.
([2]) مقال قديم/ ستة دروس للإنجاز: http://jomanahtharwat.blogspot.com/2021/08/blog-post.html