أيها الزملاء والزميلات
أكتب هذه السطور وأنا في كثير من المشاعر المتباينة مغمور، أبعث شكرا أكتب شعرًا أحمل حزنا أبكي وجدا أرسم وردا منتهزا الفرصة في تقديم وافر الشكر وعظيم الامتنان لمعالي الدكتور فالح السلمي على ثقته ومنحي فرصة ثالثة للعمل في جامعة الملك خالد إلا أن ظرفا أسريا صعبا أمرّ به حال بيني وبين البقاء بينكم ومواصلة متعة العمل معكم وكان لزاما علي أن أمرّ بمرحلة ليس بيني وبينها ودّ أو محبة، إنها مرحلة الوداع وندرك جميعا مدى نفور النفوس منها ناهيكم عن وقعها على قلب شاعر تمكنتم من قلبه واحتليتم مساحة كبيرة منه حسبي أنكم في قلبي ومعي أينما كانت وجهتي وفي أي أرض أقمت عليها لن تمحوكم الأيام من ذاكرتي ولن تدخلوا دائرة النسيان ما حييت.
يا أهل عسير أهل اليسر والكرم والجود والعطاء والوفاء لم ألق منكم منذ أول يوم شاركتكم الماء والزاد والعمل والمزاح والود والهواء النقي والعسل .. منذ افترشت أرض الخير أرضكم وتلحفت عباءة جوكم الماتع لم ألق إلا كل ما يسر الصديق ويغيض العدو كنتم الأخ الوفي والصديق الحميم كنتم لي كل شيء .. أسعد عندما ندعى إلى احتفال أو مناسبة أو اجتماع لأني سأمتّع ناظري برؤيتكم وستغرق نفسي في مشاعركم أمازحكم كثيرا فترسمون لي من ابتساماتكم الصادقة أملا ينير الطريق وحبا للحياة وتشبثًا في المكان وخروجا من كل ضيق أجدكم في كل شيء جميل تقع عليه عيني.
لحظة الوداع حمّلتني ما لا أطيق فلم أتمّ الأسبوع الأخير من العمل فقد ضاقت علي الأرض بما رحبت وشعرت أنه قتل بطيء فاتجهت إلى مقعدي الذي اعتدته كل أسبوع في الطائرة لكنه هذه المرة مختلف تماما … شعرت أن المكان ضيق جدا لا يسعني وأحزاني..
لحظة الوداع ثقيلة جدا حولتني إلى كوم من الأسى وركام من الحزن وبقايا إنسان رغم أنني حملت معي أكثر من حقيبة سفر هذه المرة لكنني وأنا أجمع فيها بعض أشيائي أشعر بأنها تبعث بدخان يكتم أنفاسي .. يا الله نعم كنت أهرب من التفكير في هذه اللحظة لكنني لم أتخيل ثقلها ولم أتصور صعوبة تجاوزها.
يدخل علي بعض الزملاء والمحبين وهم كثر وأبنائي ممن يعملون معي وأعمل معهم في مكتبنا الصغير فيحاولون ثنيي عن هذا القرار لكن دموعي تحول بيني وبين الخوض في النقاش .. تلك الدموع التي فضحت والدا مع أبنائه فلكم كان يزرع فيهم الصبر والجلد ومقاومة الحياة لكنه فشل فشلا ذريعا عند المحك .. عند التطبيق حاولت أواري دموعي وضعفي عنهم لكن ما أنا صانع؟ كان الحل هو الفرار من المكان لكي لا يرى أبنائي في المكتب مزيدا من الضعف والانهزامية أتحدث عن من؟ الزملاء في المكتب .. الوكلاء.. العمداء.. أعضاء هيئة التدريس ..أعضاء مجلس الجامعة .. مدراء الإدارات .. الموظفين .. المهندسين .. رجال الأمن .. عمن حوّل بيئة العمل إلى خلية نحل ومتعة لا تقاوم أعني أبا مهند مدير الجامعة بأسلوبه الفريد وتواضعه الجم وأخلاقه العالية وثقته التي جعلتنا نضاعف الجهد ولا نكل من العمل؟ هل أتحدث عن مجتمع عسير خارج نطاق العمل .. الدوائر الحكومية الأخرى .. الإمارة .. الأمانة .. الأندية .. المطار والمحبين هناك .. الباعة .. جماعة الحي .. لقد أثقلتم قلبي يا أهل عسير بحجم حبي لكم … نعم ليس الوقت وقت مجاملة لم تعد تربطني بكم رابطة عمل لكن الرابطة أضحت رابطة حب متغلل في النفس لا ينفك.
عدت إلى الرياض أحمل معي أسماءكم السامية ورائحتكم العطرة وذكرياتكم الجميلة وأصدقكم القول ولا أكذبكم أنني لم أكن أعلم أنكم قد سيطرتم علي .. على مشاعري وعواطفي وأحاسيسي بهذا الحجم.
هبطت الطائرة والذي جعلني ألتفت إلى الوراء عندما دخلت مطار الملك خالد في الرياض صوت المنادي الذي كان يعلن عن موعد إقلاع رحلة إلى أبها .. أنظر إلى وجوه المسافرين من خلف الزجاج الذي حال بيني وبينهم .. يا الله كم تمنيت كسر هذا الزجاج لألحق بهم ويحملوني معهم إلى حيث أريد فكسر هذا الزجاج كان أهون علي من كسر قلب تسكنونه.
يا أهل عسير ليس هذا القلب وحده الذي ينعم بكم لكن جوالي الذي رجعت وذاكرته تحملكم تحمل أسماءكم وألقابكم وكناكم .. قد حفظتكم في كل شيء قريب مني وجميل
أصعب شيء تمر به أن يمتلك شخص قلبك ويبتعد عنك .. فكيف بك عندما يمتلك قلبك مجتمع بأسره وتجبرك الظروف على مغادرته؟؟ إنه مجتمع عسير الذي استولى على القلب وهنا يصعب أو قد يستحيل العلاج.
كنت أدرّس مادة التحرير العربي في جامعة الإمام قبل عدة سنوات وكنت أضع للطلاب والطالبات مثالا للحصر والتخصيص فكان المثال للكرم .. وآخذ مثالا له فأضع العرب ثم أضيق الدائرة فأقول أهل الجزيرة العربية ثم أضيق الدائرة فأقول جنوب المملكة العربية السعودية.. ولم يدر في خلدي أنني سأمر بهذا المثال حتى عاشرتهم فوجدتهم كرماء وأبناء أكرمين .. كرماء في كل شيء وأقول كما قال القصيبي عليه رحمة الله إن العرب قصروا الكرم على الأكل والشرب لكن أهل عسير كرماء فيهما وفي أخلاقهم وتعاملهم وابتساماتهم زادهم الله ولا حرمهم الأجر
منحوني مساحة كبيرة في قلوبهم ومنازلهم وكل ما يملكون .. أشعر وأنا بينهم بالراحة التامة فهنيئا لكم أيها الكرماء الأوفياء على ما من الله به عليكم من كريم الخلق.
يا أهل عسير أيها السارقون .. سراق القلوب.. ماذا صنعتم بي؟ وكيف أرد جميلكم؟
يا منطقة عسير وَيَا أهل عسير أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .. حفظكم الله جميعا وزادكم رفعة في الدارين أضعاف ما منحتم كاتب هذه السطور من التقدير والإكرام والإحترام فلقد منحتموني دروسا في الحياة شتى تنير طريق عودتي وتسلي مكلوم فراق سائلًا الله تعالى أن يجمعني بكم مرات ومرات وأن يسكنني وإياكم في أعلى منازل الجنات.
بقلم وكيل جامعة الملك خالد
د. محمدعلي الحسون>